انقلابات غرب إفريقيا
بغض النظر عن الخطاب الانشائي للغرب حول “الحرية والديمقراطية” وما إلى ذلك، فإن الانقلاب العسكري في الغابون الذي أطاح بحكم الرئيس علي بونغو يحمل أكثر من دلالة تتجاوز حتى مسألة “التكالب على إفريقيا” من قبل قوى الغرب التقليدية (الاستعمار القديم والجديد) والقوى الصاعدة في العالم.
خاصة وأن انقلاب الغابون يأتي بعد أيام من انقلاب النيجر الذي أطاح أيضا بالرئيس المنتخب محمد بازوم على يد قيادات عسكرية.
وذلك رابع انقلاب في غرب إفريقيا خلال نحو عامين، منذ استولى الجيش على السلطة في مالي ثم في بوركينا فاسو.
بداية، ليست الانقلابات العسكرية بالأمر الجديد في إفريقيا بشكل عام، والتي شهدت دولها ما يقارب مئة انقلاب عسكري في العقود الستة الأخيرة أي ما بعد الاستقلال عن الاستعمار القديم في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي.
وتظل المؤسسة العسكرية في الدول الإفريقية عماد وسند السلطة الأساسي وينظر إليها إلى أنها ليست فقط المدافعة عن حدود الوطن وإنما أيضا حامية نظام الحكم ومن يفصل في أمور البلاد.
حتى تلك الدول التي يتحدث الغربيون والعالم عنها باستحسان لتحولها “الديمقراطي” مثل إثيوبيا ورواندا وغيرها تظل المؤسسة العسكرية فيها هي مصدر السلطة الأول.
بل إن أغلب القادة “المدنيين” الذين جاءوا للحكم بالانتخابات فيها خلفياتهم أيضا عسكرية أو من جماعات مسلحة إثنية أو فئوية داخل هذا المجتمع أو ذاك.
ربما يبدو ذلك نتيجة منطقية لدور الجيش والجماعات الوطنية المسلحة في أغلب بلدان القارة السمراء كمقاومة للاستعمار القديم وتحقيق الاستقلال ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولأن تلك القوة المجتمعية لعبت دورا سياسيا في بناء دولة ما بعد الاستقلال، بغض النظر عن النجاح أو الفشل في ذلك البناء، فقد ظلت نقطة الاتصال الأهم في دول إفريقيا مع المستعمر القديم بعد جلائه عن بلادها أو مع القوى الجديدة الصاعدة التي حلت محل الامبراطوريات القديمة وتحديدا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق (ثم الاتحاد الروسي فيما بعد).
مع نهاية الحرب الباردة في مطلع الربع الأخير من القرن الماضي، كانت قوى أخرى صاعدة في العالم – خاصة من آسيا – تسعى لتعزيز وجودها على الساحة العالمية ووجدت في قارة إفريقيا منفذا بكرا لموطئ قدم خارجي لها مستفيدة من قدراتها الاقتصادية والمالية.
وشهد مطلع هذا القرن تهويلا غربيا لما سمي “الخطر الصيني” على إفريقيا وسعيها للاستيلاء على مواردها الطبيعية وإغراق دول القارة بالقروض الميسرة غير المشروطة.
ظلت عمليات التحول، اقتصاديا وسياسيا، في أغلب الدول الإفريقية مرتبطة بتلك التجاذبات من القوى الدولية: الاستعمار القديم (بريطانيا وإيطاليا وفرنسا) والاستعمار الجديد (أميركا وروسيا) والاستعمار الصاعد (الصين وأمثالها).
وفي القلب من تلك التحولات كانت المؤسسة العسكرية سواء الجيوش النظامية أو الجماعات المسلحة شبه الرسمية الوجهة الرئيسية لمن يريد تقوية النفوذ في دول القارة.
وارتبطت مصالح القيادات الجديدة الصاعدة في دول القارة بتلك القوى المتنافسة على إفريقيا.
في هذا السياق يمكن النظر لانقلاب الغابون، وما سبقه من انقلابات أخيرة في غرب إفريقيا منذ عام 2020، على أنها حلقة في تطورات أوضاع القارة ضمن عالم يتسم بقدر من “الميوعة” في نظامه. يسميها البعض “مرحلة انتقالية” ممتدة منذ نهاي العالم ثنائي القطبية إلى ميز الحرب الباردة بين شرق وغرب سعيا نحو تشكيل “نظام عالمي جديد” ويراها البعض مخاض مرحلة جديدة باستبدال ثنائية القوة العالمية التي سادت على أنها صراع شرق وغرب إلى ثنائية شمال وجنوب. وأيا كانت التسميات، التي تترك للباحثين ومبتكري المصطلحات السياسية بعدما يتغير الواقع، فتلك الانقلابات العسكرية تبرز أمرا هاما.
ذلك هو أنه في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن تراجع مراكز القوة العالمية التقليدية، وتسعى مراكز جديدة ناشئة للمشاركة في إدارة شؤون العالم وتقاسم النفوذ فيه، ترى قوى أخرى أن هذه فرصتها لتحقيق مصالحها وتعظيم مكاسبها. فمن يرى أن “لحظة الصين” تخفت وتتراجع ومن يرى أن الوضع الدولي الحالي هو “لحظة الهند” .. وهناك كثير من “اللحظات” لدول وتجمعات التي تؤكد أن الوقت فعلا وقت “انتهاز فرص”.
هنا، ترى المؤسسات العسكرية في أغلب الدول الإفريقية، أنها القادرة على انتهاز “لحظة إفريقيا” بشكل أفضل من غيرها في مجتمعاتها ودولها.
وفي إعادة انتاج للنضال ضد المستعمر القديم والاستفادة من الحديث، تعتبر المؤسسة العسكرية نفسها المؤهلة لخوض السباق الحالي في العالم الذي يتجه نحو “الجديد”. لا يعني ذلك بالطبع أن هناك أسبابا آنية، قد تكون في منتهى الصغر ومغرقة في المحلية وحتى مستندة إلى مصالح شخصية في غاية الضيق تقف وراء كل انقلاب من تلك الانقلابات العسكرية.
الأمر إذا يتجاوز الموقف من النفوذ الفرنسي، المستعمر القديم في غرب إفريقيا (دول الفرانكوفون)، وحتى الشعارات العلنية من مكافحة الفساد والإرهاب. حتى الشعار الأخير يبدو أنه لا ينفصل عن ذلك السياق الذي أشرنا إليه. فالبعض يرى أن انتشار القاعدة وداعش وغيرها ليس سوى أداة من أدوات أقطاب التكالب على افريقيا، وتحديدا أميركا وإسرائيل.
وبغض النظر عن صحة تلك التصورات من عدمها، ففي النهاية يملك العسكريون القوة للسيطرة في بلادهم، ويعتبرون أنفسهم ورثة الاستقلال وبالتالي من حقهم انجاز “لحظة إفريقيا” في النظام العالمي المتوقع.