باتيلي.. وآلية جديدة بلا أفق
تعمل الآلية المقترحة للوصول إلى حل في ليبيا على “الجمع بين مختلف الأطراف الليبية المعنية بمن فيهم ممثلو المؤسسات السياسية وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، وممثلون عن النساء والشباب”، وهي نسخة منقحة من ملتقى الحوار السياسي الذي شكلته ستيفاني وليامز في أكتوبر 2020 وعقد اجتماعه التأسيسي بالعاصمة التونسية في نوفمبر من نفس العام، ثم كان وراء انتخاب أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة خلال اجتماع جنيف في فبراير 2021، في ظروف شابتها مظاهر الفساد وشراء الذمم، مما أدى لاحقا إلى تهميش دور الملتقى ثم استبعاده من المشهد السياسي، بعد أن تأكد أنه لا يمثّل إلا مصالح أعضائه والأطراف التي يمثلونها.
من حق المراقبين أن يتساءلوا عن طبيعة الطريقة التي سيعتمد عليها المبعوث الأممي عبدالله باتيلي في اختيار أعضاء الآلية الجديدة، لاسيما أن زعماء القبائل وقادة منظمات المجتمع المدني وممثلي الجماعات المسلحة والفعاليات النسوية والشبابية يحتاج جمعهم تحت سقف واحد إلى توافقات سياسية واجتماعية وقبلية ومناطقية وإلى ثقة من الشعب، وهو ما يطرح الكثير من الاستفهامات حول كيفية اختيارهم، وعما إذا كان المبعوث الأممي سيسير على خطى وليامز عندما نشرت قائمة لمن وقع عليهم اختيارها من أعضاء ملتقى الحوار، فقوبل اختيارها بالتشكيك في فحواه ودوافعه وأهدافه من قبل الأغلبية الساحقة من الليبيين.
كما أن اختيار أعضاء الآلية الجديدة سيتطلب تمثيل أغلب القبائل إن لم يكن كلها، وممثلي الأقليات من التبو والأمازيغ والطوارق، وممثلي النظام السابق وقوى فبراير والتيار الملكي الدستوري، وممثلي الأقاليم الثلاثة والمدن الكبرى وفق التوازنات التي يفرضها الواقع على الأرض، بالإضافة إلى الفاعلين الأمنيين وخاصة قادة الميليشيات والجماعات المسلحة والفعاليات النسوية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني وربما بعض الشيوخ والوجهاء والحكماء ممن كانت لهم أدوار سياسية أو دبلوماسية مهمة في عهود مختلفة أو شاركوا في إدارة شؤون الدولة، وبعض الشخصيات الثقافية والفكرية والأدبية التي تحظى باحترام الشعب، وهذا ما يعني أن الأعداد ستكون بالمئات، وربما سيكون عليها أن تختار من بينها من يتصدر واجهة المشاورات حول المرحلة السياسية القادمة.
وبحسب خطة باتيلي، فإن الآلية الجديدة ستحل محل مجلس النواب المنتخب في 2014، ومجلس الدولة الاستشاري المنتخب في سياق المؤتمر الوطني العام في 2012، اللذين ورغم الانتقادات الموجهة إليهما وإلى رئيسيهما عقيلة صالح وخالد المشري، لا يمكن للمبعوث الأممي أن يتجاهل بعض المعطيات الأساسية، منها أن مجلس النواب يعتبر الجسم السياسي الوحيد القائم حاليا نتيجة انتخابه مباشرة من الشعب، وهو يعبّر عن إرادة جانب مهم من المجتمع الليبي، خاصة في شرق وجنوب البلاد، ولديه قدرة واضحة على تجييش الكثيرين من أنصاره، كما أن مجلس الدولة جاء نتيجة الاتفاق السياسي المبرم في الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015، ولا يزال يحظى بتلك الشرعية، بالإضافة إلى امتداداته في صفوف تيار فبراير وفي جماعات الإسلام السياسي وكذلك في المدن الكبرى بالمنطقة الغربية كمصراتة والزاوية والعاصمة طرابلس.
وأي محاولة لإقصاء المجلسين من المشهد العام في البلاد ستعني وضع البعثة الأممية ومن ورائها القوى المسيطرة على كواليس مجلس الأمن والأمم المتحدة، يدها على القرار السياسي الليبي وعلى العملية السياسية بالكامل دون توفير ضمانات لنجاحها. هذا مع اعتبار ما يتم التخطيط له من تشكيل سلطة تنفيذية جديدة بدل حكومتي عبدالحميد الدبيبة وفتحي باشاغا، يتم ظاهريا اختيارها من قبل الآلية الجديدة التي لن تكون منتخبة وإنما مسقطة وفق توجهات ورغبات باتيلي ومن يتحركون فعليا لتحقيق الهيمنة المطلقة على ليبيا.
كان على المبعوث الأممي الانتباه إلى جملة من المسائل المهمة، من بينها التذكير بالفشل الذريع للمبعوثين الذين سبقوه إلى رئاسة البعثة، وبعجز الأمم المتحدة عن حلحلة الأزمة القائمة منذ 12 عاما، وتوفير الشروط الملائمة لحل الجماعات المسلحة، وجمع السلاح المنفلت، وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، وتوحيد مؤسسات الدولة الليبية وفسح المجال أمام مصالحة وطنية شاملة وفق ما تفرضه مصلحة الشعب الليبي، وليس ما يخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية المتنازعة على النفوذ في البلد العربي الثري بشمال أفريقيا.
كما كان على باتيلي العودة قليلا إلى الوراء، وبالتحديد إلى ديسمبر 2021 تاريخ فشل المجتمع الدولي على الإيفاء بوعده بتنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية، رغم أن الاستعدادات كانت قد جرت لمدة عام كامل، خصوصا بعد أن تبين لاحقا أن القوة القاهرة الحقيقية التي كانت وراء تأجيل الاستحقاق إلى أجل غير مسمى كانت رفض بعض العواصم الإقليمية والدولية لهذا المرشح أو ذلك، ولما قد تسفر عنه صناديق الاقتراع من نتائج لا ترضي أصحاب مشروع وضع اليد على ليبيا.
ستنتهي خطة باتيلي إلى الفشل ككل الخطط السابقة، وسيكون من الصعب تنظيم انتخابات شاملة وحرة ونزيهة في العام الجاري، طالما أن قوى خارجية تعمل بوضوح على التدخل في خيارات الليبيين وتحديد هوية من سيحكمون ليبيا مستقبلا، ورغم أنها ترفع شعارات الحرية والديمقراطية والتعددية إلا أنها لا ترى من تلك الشعارات إلا ما يلائم مصالحها ويخدم حساباتها.
كما أن الإبقاء على سلطة الميليشيات وعلى ظواهر انتشار السلاح والإفلات من العقاب والتدخل الأجنبي، والصمت إزاء واحدة من أكبر عمليات النهب الممنهج للمال العام، يؤكدان غياب الجدية في التعامل مع الملف الليبي، فيما أن ملامح الحل الحقيقي واضحة للجميع ويمكن للأمم المتحدة أن تصل إليها بما لديها من إمكانيات وآليات قانونية وسياسية وأمنية، وهي حل الميليشيات وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة وتوحيد مؤسسات الدولة وتحقيق المصالحة وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة برعاية المجتمع الدولي.
ربما يكتشف باتيلي أن الموضوع لا يتعلق بالنوايا الحسنة في بلد يتمحور الصراع الحقيقي داخله على تقاسم النفوذ، وعلى الثروة التي يتحكم فيها أفراد معدودون يحتكمون على دعم خارجي من حكومات وشركات كبرى ولوبيات تستفيد بنصيبها من الكعكة، ولكن هذا الاكتشاف قد يأتي متأخرا، في حين أن الاتحاد الأفريقي مثلا لديه وصفة للعلاج ويمكن اعتمادها في حال تبنيها جديا من قبل الأمم المتحدة، وقد يكون من أبجدياتها أن الآلية الجديدة التي اقترحها على مجلس الأمن، يمكن أن تكون واجهة المصالحة الوطنية الحقيقية على أن تنجح في تمثيل كل فئات المجتمع الليبي وفي أن تكون اختبارا عمليا للوطنية الليبية، وأن يكون أبرز شروط نجاحها على الإطلاق التخلي عن مبدأ الإقصاء.
لا حل ولا أمل في الخروج من النفق طالما أن هناك من يفكر في إقصاء غيره من المشاركة في الانتخابات وفي التداول السلمي على السلطة وفي تقاسم الثروة والاستفادة من خيرات ليبيا ومقدراتها التي يمكن أن تكفي جميع الليبيين، وتوفر لهم فرص الرفاه والسعادة.