بريطانيا.. إضراب المعلمين
تآكُل أجور المعلّمين منذ 2010، استدعى انضمامهم إلى موجة الإضرابات الممتدة منذ أشهر في المملكة المتحدة.
الاتحاد الوطني للتعليم أعلن ستة أيام من الإضراب بين فبراير ومارس 2023، ولم يُلزم المضربين حتى إعلام إدارات المدارس نيّتهم المشاركة في الحراك.. وكأن الهدف هو خلق الفوضى، وليس الاحتجاج على تراجع قيمة الرواتب، في ظل ارتفاع كلفة المعيشة وصعود التضخم إلى رقم من منزلتين.
الإضراب يؤثر في عمل نصف مدارس إنجلترا الحكومية، مع مشاركة عشرات الآلاف من المدرسين فيه.
وزير الخزانة، جيرمي هانت، ووزيرة التعليم، جيليان كيجان، حذرا من التداعيات على مستقبل الأطفال واليافعين، ولكن اتحاد التعليم الوطني رد بأن “تخويف المدرسين ومحاولة بث القلق في الأهالي لن تُجدي، ولا بد أن تشعر الحكومة بجدية ما يعيشه المعلمون في ظل تراجع مستويات وقيمة أجورهم”.
ويُشرف على إضراب المدرسين في المملكة المتحدة أكبر اتحاد تعليمي على مستوى قارة أوروبا، حيث يضم أكثر من 400 ألف عضو.
ورغم ذلك لم توافق الحكومة حتى الآن على مقترحاته لرفع أجور المدرسين بما يواكب التضخم.
جُل ما عرضته الحكومة هو زيادة في متوسط الأجور بنحو 5٪ العام المقبل للمعلمين أصحاب الخبرة.. وزيادة 16% خلال العامين المقبلين لأولئك الذين انضموا حديثا إلى هذا العمل.
ووفقًا لمعهد الدراسات المالية في لندن، شهدت رواتب المعلمين في المملكة المتحدة منذ عام 2010 تراجعا بنسبة تتراوح بين 6 و14%، وفقا لسنوات عملهم.. في حين يقول الاتحاد الوطني للتعليم إن هذه النسب تتضاعف عندما يضاف إليها شعور المعلمين بتدني قيمة عملهم وإحساسهم بالعجز إزاء مواكبة كلفة الحياة المتزايدة.
المشكلة المالية، التي تواجهها المدارس الحكومية في المملكة المتحدة، لا تنحصر في تراجع قيمة أجور الهيئة التدريسية، وإنما تمتد إلى ضعف ميزانية المدارس وشُح تمويلها من قبل الدولة.
واليوم، مع مطالبة اتحاد التعليم الوطني برفع رواتب المعلمين، قد تتفاقم الأزمة إن وقع ما يحذر منه وزير الخزانة بأن دعم أجور العاملين في القطاع سيكون على حساب إنفاق المدارس في مجالات أخرى لتطوير العملية التعليمية.
الأزمة المالية، التي تواجه مدارس الدولة البريطانية، تقودنا إلى مشكلة أخرى تتمثل في تسرب المدرسين من القطاع الحكومي إلى الخاص.. حيث تشير أرقام معهد الدارسات المالية إلى أن نحو 8٪ من المعلمين تركوا وظائفهم في المدارس الحكومية لإنجلترا والتحقوا بالقطاع الخاص عام 2021.. ويتوقع زيادة هذه النسبة بسبب ارتفاع معدل التضخم، وزيادة كلفة الحياة على المعلمين وجميع السكان في المناطق كافة.
وبعيدا عن المال، لا تزال بعض المدراس في المملكة المتحدة تجد صعوبة في مساعدة الطلاب على تعويض ما فاتهم خلال فترة جائحة كورونا.. فقد ظهر تراجع واضح في أداء عدد من الطلاب بسبب التغيب عن حضور الدروس الفعلية، والتواصل مع المدرسين من أجل شرح وتوضيح المعلومات والدروس، وخاصة في المناهج العلمية.
ثمة صعوبة أخرى خلقتها الجائحة تتعلق بنفور الطلاب من العودة إلى نموذج امتحانات ما قبل الوباء.. فقد بات الطلبة لا يأخذون الاختبارات الفصلية والنهائية بذات الجدية، التي كانوا عليها سابقا.. فقامت المدارس بإعادة تأهيل فكرة الامتحان كوسيلة للنجاح والمنافسة والتيقن من نجاعة العملية التعليمية وتأدية المعلمين لدورهم كاملا.
تقول صحيفة الجادريان في تقرير مختص نشرته قبل فترة قصيرة، إن “التحول إلى التعليم الإلكتروني بسبب كورونا أثر في جودة التعليم، والمنظمات المعنية تعمل مع المدارس والحكومة من أجل مواجهة تداعيات تلك المرحلة.. ولكن الطامة الكبرى هي أن الوباء وما رافقه من إغلاق عام تسبب في مشكلات عقلية ونفسية للطلبة”.
وبحسب معهد الدراسات المستقلة، يشعر المعلمون بالقلق إزاء التأثير المستمر لمشكلات الصحة العقلية، التي ظهرت على التلاميذ بعد كورونا.. وهذه المشكلات لا تخلق صعوبات في التعلم فقط، وإنما في السلوك أيضا.. حيث شهدت بعض المدارس ارتفاعا في مستويات غياب الطلاب، وسوء معاملتهم زملاءهم ومعلميهم أيضا.
معهد الدراسات ينقل عن مسؤولين في بعض المدارس أنهم يتعاملون اليوم مع “تسونامي” من مشكلات الصحة العقلية، التي ألمّت بالطلبة بعد الجائحة.. وعندما تُضاف هذه المشكلات إلى التحديات المالية ومتطلبات تطوير المناهج الدراسية، وضمان تحقيق معايير جودة التعليم والأداء التي تشدد عليها الهيئات الرقابية الرسمية، يصبح العبء كبيرا جدا على المؤسسات التعليمية والقائمين عليها والعاملين فيها، على حد سواء.
وتعاني الجامعات في المملكة المتحدة من ذات المشكلات، التي تعيشها المدارس.. والأزمات المالية منها دفعت بالأساتذة والكوادر الإدارية إلى الاحتجاج أيضا.. وقد شارك الآلاف من 150 جامعة في إضراب الأول من فبراير الجاري، والذي جمع أكثر من نصف مليون موظف حكومي في سبعة قطاعات، منها النقل والصحة والخدمة المدنية.
وتحاول الجامعات مواجهة تراجع الدعم الحكومي عبر زيادة موارد رسوم الطلبة الأجانب ومراكز الدراسات والأبحاث التابعة لها.. حيث يشير تقرير لمؤسسة إحصائية مختصة إلى أن الجامعات قد تلجأ إلى زيادة عدد مقاعد الأجانب على حساب الطلبة المحليين، لأن رسوم الوافدين تغطي التكاليف وتحقق الربح.. أما ما يدفعه البريطانيون فقد تآكلت قيمته مع مرور الوقت ووصل في 2022 إلى حدود “الخسارة” بسبب التضخم.
بلغة الأرقام، تخسر الجامعات 1750 جنيهًا إسترلينيًا سنويًا على تدريس الطالب المحلي.. وهذه الخسارة قد تصل إلى 4000 جنيه إسترليني بحلول 2024.. فسقف الرسوم الدراسية في بريطانيا لم يتزحزح منذ خمسة عشر عاما.. رفعته الحكومة إلى 9000 جنيه سنويًا عام 2012، ثم زادته إلى 9250 جنيهًا في عام 2017.. ومنذ ذلك الحين ترفض الحكومات المتعاقبة تحريك هذا الرقم صعودا، خشية التداعيات السياسية للخطوة.. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد ازداد الأمر تعقيدا.
في الجامعات أيضا هناك مشكلات نفسية وصعوبات تعليمية يعانيها الطلبة.. بعضها وُلد من الجائحة وبعضها الآخر يرتبط بأسباب أخرى اجتماعية وصحية.
ورغم كل الظروف التي تواجه المؤسسات التعليمية على اختلاف مراحلها في بريطانيا، فإن المدرسين والطواقم الإدارية والاختصاصية يبذلون جهدهم للحفاظ على تنافسية التعليم في البلاد، والحفاظ على المملكة المتحدة قبلة عالمية للتخصص والتحصيل الأكاديمي.. فهل تحتاج الحكومة إلى إعادة نظر في أولويات إنفاقها، أم أن في جَعبتها ما يكفي لتصنيع الطائرات والدبابات، وفي الوقت ذاته دعم الصحة والتعليم والنقل وبقية مؤسسات القطاع العام؟