أوفد رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، رئيس مخابراته هاكان فيدان، وأحد أبرز المقربين منه، إلى العاصمة الأميركية واشنطن ليلتقي مع مسؤولين في وكالة المخابرات المركزية بالولايات المتحدة، بعد شهرين من حادثة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، .
رئيس المخابرات التركية لم يكتف بلقاء مديرة المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.إيه) جينا هاسبل، حينها، بل ناقش ملف قضية خاشقجي أيضاً في اجتماع مع أعضاء من الحزبين الجمهوري والديموقراطي بمجلس الشيوخ الأميركي، في سعي مُمنهج لاستغلال القضية التي كشفت استخبارات أردوغان عن تفاصيلها بعد ساعات فقط من حدوثها، مما طرح العديد من علامات الاستفهام حول الدور المخابراتي التركي المحوري من البداية للنهاية.
ولطالما كان فيدان، الضابط السابق في القوات المسلحة، الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، حليفًا وثيقًا لأردوغان، وهو دعا علناً في عام 2012، إلى تركيز جميع عمليات الاستخبارات التركية في مركز واحد، سعياً لتحويل بلاده إلى دولة استخباراتية.
وأعادت حكومة حزب العدالة والتنمية تنظيم جهاز المخابرات الوطني بقانون صدر في 2014، في إطار تعزيز نفوذ أردوغان وحزبه الإسلامي الحاكم في الداخل والخارج.
وبعد محاولة الانقلاب عام 2016، أصبح حلم فيدان حقيقة واقعة، فقد استخدم أردوغان سلطات الطوارئ لإصدار مرسوم يربط جهاز الاستخبارات الوطنية بالرئاسة، ولأول مرة في التاريخ، تمّ منح جهاز الاستخبارات سلطة جمع المعلومات عن الجيش التركي.
ومُنذ ذلك الحين، تحوّلت استخبارات أنقرة إلى مُجرّد أداة لتنفيذ أجندة أردوغان الإسلاموية- القومية، ولطالما برعت في تأليف القصص والأكاذيب وكيل الاتهامات للأتراك والأجانب على أراضيها وخارج حدودها مُبتعدة عن دور حماية البلاد من الأعداء الحقيقيين.
اليوم، وفي ظلّ صمت رسمي تركي مُفاجئ حول نشر تقرير واشنطن، اكتفت وكالة أنباء الأناضول التي يُسيّرها الحزب الحاكم، وعلى غير عادتها بعد أن قادت حملة إعلامية غير مسبوقة ضدّ الرياض والأمير محمد بن سلمان مُنذ مقتل خاشقجي، اكتفت بأن نقلت عن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قوله إنّ الإجراءات التي اتخذتها واشنطن ضد مسؤولين سعوديين على خلفية القضية لا تهدف إلى إحداث “شرخ أو قطيعة” في العلاقات مع السعودية، مُشيراً إلى التزام واشنطن بالدفاع عن أمن المملكة.
وقالت الرياض إنها “ترفض رفضا قاطعا” تقييم تقرير المخابرات الأميركية الذي صدر الجمعة وقال إن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وافق على اعتقال أو قتل الصحفي جمال خاشقجي.
وأكدت وزارة الخارجية السعودية في بيان أن “حكومة المملكة ترفض رفضا قاطعا ما ورد في التقرير من استنتاجات مسيئة وغير صحيحة عن قيادة المملكة ولا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال، كما أن التقرير تضمن جملة من المعلومات والاستنتاجات الأخرى غير الصحيحة”.
وتابع البيان أن الجريمة “ارتكبتها مجموعة تجاوزت كافة الأنظمة وخالفت صلاحيات الأجهزة التي كانوا يعملون فيها، وقد تم اتخاذ جميع الإجراءات القضائية اللازمة للتحقيق معهم وتقديمهم للعدالة، حيث صدرت بحقهم أحكامُ قضائية نهائية رحبت بها أسرة خاشقجي”.
وقضت محكمة سعودية العام الماضي بالسجن مددا تتراوح بين سبعة أعوام و20 عاما على ثمانية أشخاص في قضية مقتل خاشقجي بعد أن عفت أسرته عن قاتليه مما جنّبهم عقوبة الإعدام.
وقال البيان “تؤكد وزارة الخارجية أن الشراكة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، هي شراكة قوية ومتينة”.
ولطالما، وعد أردوغان في مواقف مسرحية أنّه سيفجر قنبلة ويقدم دليلا تزعم أنقرة أنها تمتلكه عمّن قتل خاشقجي، دون أن يفي بذلك، مُكرّراً بأنّ “تركيا تتابع هذه القضية باعتبارها ممثلا لضمير العالم” مُتجاهلاً تصنيف بلاده من قبل المنظمات الدولية المعروفة بأنّها أكبر سجن للصحافيين في العالم، حتى بالمُقارنة مع الصين.
واكتفى رئيس النظام التركي، الذي كان حريصاً على إبعاد العاهل السعودي الملك سلمان عن القضية، بالمُطالبة بالكشف عن كل المتورطين “من أدنى المستويات إلى أعلاها”، مؤكداً أنّه لا يساوره أي شك بشأن “مصداقية الملك”.
لكن، وكما يقول كاتب أعمدة مؤيد لحزب العدالة ومُقرّب بقوة من القصر الرئاسي، فإن أنقرة تفكر الآن في أنها إن عجزت عن إبعاد الأمير محمد بن سلمان عن منصبه في نهاية قضية خاشقجي، فإنها سوف تكسب عدوا سيظل حاكما للسعودية طوال الخمسين عاما المقبلة على الأرجح.
وفتح الاتصال الهاتفي الذي أجراه العاهل السعودي بأردوغان نوفمبر الماضي، الباب أمام تهدئة تُمكّن من تجنّب المزيد من التصعيد الإعلامي بين البلدين، في وقت تجد فيه الرياض وأنقرة نفسيهما في مرمى سياسات الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن.
ودأبت حكومة أردوغان على ابتزاز السعودية واستفزازها وتشويه صورتها في المُجتمع الدولي، بعد الإعلان عن اختفاء خاشقجي في أكتوبر 2018 بساعات، وفي محاولة بذات الوقت للتغطية على إخفاقات النظام التركي على صعيد أكثر من ملف إقليمي ودولي، فضلاً عن أزمته الاقتصادية الداخلية وانتهاكاته المعروفة لحقوق الإنسان والحريات الصحافية.
بالمقابل، اشتكت وكالة أنباء الأناضول مراراً في عدّة تقارير لها، من أنّ الإعلام السعودي يشنّ حملة ضدّ النظام التركي لا مثيل لها حتى في الإعلام الغربي، داعية لفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات التركية السعودية، على الرغم من استمرار الأناضول بارتكاب مغالطات كبرى تجاه المملكة والهجوم على سياستها.
وكانت آخر محاولة تركية لإثارة قضية خاشقجي سبتمبر الماضي، في سعي منها لتجديد الإساءة للسعودية، وتشويه سمعتها إعلامياً، حيث وجّهت النيابة العامة في إسطنبول تُهماً، إلى ستة سعوديين إضافيين يشتبه تورطهم في مقتل الصحافي المعارض، لكن محاولتها تلك لم تنجح في حينه بإثارة الاهتمام الدولي.
ودأب الإعلام التركي، على تحميل نظيره السعودي مسؤولية التوتر في العلاقات بين أنقرة والرياض، بينما تقود وكالة أنباء الأناضول حملة متواصلة ضدّ سياسات المملكة، وتدّعي في ذات الوقت حرصها على فتح صفحة جديدة، في تناقض غير بعيد عن نهج حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم، الذي يُوجّه تلك الوكالة شبه الرسمية، فيما 95% من إعلام البلاد يتبع له أيضاً.
وفي تقرير جديد لها مؤخراً تحدثت فيه عن مُناخ إيجابي بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة، قالت الأناضول إنّ النهج الذي اتبعته الرياض وخاصة بعد العام 2015، تخطّى المساعي العقلانية، ووصل في بعض الأحيان إلى حدّ الاستعداء، فكان الإضرار بالعلاقات الثنائية بين البلدين أمرا محتوما.
وفي تقريرها، الذي جاء بعنوان “هل يمكن فتح صفحة جديدة في العلاقات التركية السعودية؟” قالت الأناضول، إنه لن يكون هناك مستفيد من هذا التوتر على المدى الطويل، وإن إعادة تأسيس مجالات التعاون بين البلدين ستنعكس بالفائدة على الطرفين والمنطقة.
وتعود الوكالة الحكومية لتُناقض ما تدّعيه من أهمية التعاون، بالقول إنّه يجب تدعيم الخطوات البناءة بتوقف الحكومة السعودية عن السعي وراء مزيد من المغامرات، وتغليب “عقل الدولة” قبل كل شيء.
ومع زعمها أن سلسلة من المشاكل الخلافية بين الرياض وأنقرة أوشكت على النهاية مع التوصل إلى حلّ للأزمة الخليجية، تعود الأناضول لتؤكد أنّ تركيا لن تتخلّ عن موقفها الإنساني من قضية خاشقجي، ولن تستغل الملف كورقة مساومة سياسية، بينما هذا ما حدث فعلاً إذ استغلت أنقرة القضية للإساءة لمكانة السعودية على الصعيد الدولي وفي العالم الإسلامي بشكل خاص.
وتزعم أنّه “مما لا شك فيه أن أبرز أسباب توتر هذه العلاقات متعلق بالنهج الذي اتبعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي صعد لهذا المنصب عام 2017 بعد عامين من تولي والده الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد العرش في 2015”.
وتواصل الأناضول مزاعمها بالقول “اتبع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، سياسات لترسيخ سلطته، وانتهج سياسات المغامرة عبر انجراره وراء دولة الإمارات”، لتصل إلى نتيجة مفادها أنّه “يمكن القول إنّ حلّ المشكلات سيكون أكثر صعوبة إذا تولى محمد بن سلمان الحكم، خلفا لأبيه البالغ من العمر 85 عاما.”
وتحدثت وكالة الأنباء التي تعكس لسان حال حزب العدالة والتنمية الإسلامي ورئيسه رجب طيّب أردوغان، عمّا أسمته ” نقاط الانكسار من الربيع العربي إلى مقتل خاشقجي”، وزعمت أنّ “السعودية حاولت تصعيد التوتر السياسي مع تركيا لتشمل الجانب الاقتصادي، عبر دعم حملات مقاطعة المنتجات التركية، وممارسة ضغوط بحق التجار الأتراك على أراضيها، والضغط على المستثمرين السعوديين في تركيا.”
لكنّ وكالة الأنباء التركية، رأت أنّ أولى بوادر التحسّن في العلاقات، جاءت خلال المحادثة الهاتفية بين الرئيس أردوغان، والملك سلمان، قبيل استضافة السعودية لقمة مجموعة العشرين العام الماضي، حيث اتفق الجانبان على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة.
واعتبرت أنّ وصول الديموقراطيين سدّة الحكم في الولايات المتحدة، قد يفتح الطريق أمام تسريع وتيرة العلاقات بين أنقرة والرياض، فرغم كون البلدين حليفين تقليدين للولايات المتحدة، إلا أن بعض تصريحات بايدن وإدارته تزعج تركيا والسعودية.