بعض ما يمكن عمله فلسطينيًا
ماجد كيالي
مع قيام السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاق أوسلو (1993)، لم تتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة، فقط، وإنما هي تراجعت عملياً عن مشروعها الأساسي ومبرّر وجودها، المتعلق بتحرير فلسطين، سيما أنها كانت انطلقت، أصلا، قبل احتلال الضفة وغزة في حرب يونيو/حزيران (1967). فوق ذلك ارتهنت هذه القيادة الى واقعها الجديد كسلطة، ما فرض عليها إزاحة الرواية الأصلية، والتخلي عن أي شكل من المقاومة، وتهميش كياناتها الكفاحية وضمنها منظمة التحرير، في إطار تماهيها مع عملية التسوية، وتأكيد أهليتها لثقة إسرائيل.
وفي الواقع، فإن باستثناء مرحلة الانتفاضة الثانية (2000-2004)، فإن القيادة الفلسطينية لم تعمد إلى تغيير هذا الواقع، على الرغم من أن إسرائيل ظلت تقضم اتفاق أوسلو، الظالم والمجحف، إلى حدّ القضاء عليه نهائيًا، بدءًا من أول صعود لنتانياهو إلى رئاسة الحكومة (1996- 1999)، مرورًا بعهود باراك وشارون وأولمرت، وصولاً إلى العهد الثاني لنتانياهو (منذ تسعة أعوام). وقد تمت ترجمة ذلك عبر الاستيطان ومصادرة الأراضي، ثم في بناء الجدار الفاصل، لفرض الأمر الواقع، وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية، وفي الانسحاب الأحادي من غزة، التي باتت تحت حصار ظالم منذ ثمانية أعوام، وها نحن اليوم إزاء ترتيبات تفضي إلى تشريع الاعتراف بإسرائيل، سيما باعتبارها دولة قومية لليهود، وفرض القانون الإسرائيلي على مستوطنات الضفة الغربية، بل وضم الضفة، أو أجزاء منها، وفقا لخطة ترامب (صفقة العصر) أو خطة الضم لنتنياهو.
هكذا، فخلال ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، وباستثناء الأعوام الخمسة للانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، ظلت القيادة الفلسطينية تتحدث عن خيارات بديلة، من دون أن تفعل شيئا، من الناحية العملية، والأهم من ذلك أنها لم تمهّد لشعبها، ولم تهيئ ذاتها، لأي خيار بديل، علمًا بأن كل خياراتها ظلت في إطار المعادلة التي بني عليها اتفاق أوسلو، في حين أن خيارات إسرائيل البديلة ظلت تتأسس على الضد من هذا الاتفاق، أي على أساس تجاهل حقوق الفلسطينيين، واستمرار السيطرة على أراضيهم، وتأكيد الرواية الإسرائيلية.
المعنى أن القيادة الفلسطينية كانت معنية، بل ومطالبة دومًا، بتغيير هذا الواقع، بالإقلاع عن التلويح بخيارات بديلة في التصريحات، واتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه. علمًا بأن الأمر بات يتطلب الخروج من المعادلة القائمة، لأن البقاء في ملعب أوسلو لم يعد مفيدًا، ولا مجديًا، إذ باتت إسرائيل، مع كل المشاريع التي تطرحها، في مكان آخر، أو في لعبة أخرى تمامًا.
لعل نقطة البداية في البدائل الفلسطينية، التي يفترض العمل عليها، فعلاً لا قولاً فقط، تتمثل بالتركيز، بداية وأساسًا، على إعادة بناء الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، على قواعد مؤسسية وديموقراطية وتمثيلية ووطنية، لأن الاشتغال على أي خيار كفاحي، لصد التحديات الإسرائيلية، لا يمكن التأكد من صدقيته، وفعاليته، من دون توفر البنى القادرة على حمله، والبنى الشعبية الحاضنة له.
أما الخطوة التالية فتتعلق بالخروج من إسار العقلية التي قامت على أساسها مفاوضات أوسلو، باعتبار توافق الطرفين المعنيين هو المرجعية الوحيدة للمفاوضات، ما جعل هذه العملية رهنًا بالطرف الإسرائيلي لأنه الطرف المسيطر، والأكثر قوة. ففي هذه الظروف، وبالنظر الى عدم توافر المعطيات وموازين القوى العربية والدولية المناسبة للفلسطينيين، من الأجدى إعادة الاعتبار الى مرجعية القرارات الدولية، بدءًا من القرارين 181 و 194، اللذين يتحدثان عن دولة فلسطينية ضمن حدود نصف خريطة فلسطين التاريخية، وليس ضمن حدود 22 في المئة فقط، وعن بقاء الفلسطينيين في بيوتهم وممتلكاتهم أينما كانوا، وعن حق العودة للاجئين، فضلاً عن باقي القرارات التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للضفة والقدس الشرقية، وتنزع الشرعية عن الاستيطان، وعن أي إجراء يغير الوضع في الأراضي المحتلة (1967)، ويطالب بانسحاب إسرائيل منها، من دون أي شروط.
والواقع، فإن القضية الفلسطينية هي أكثر قضية لا تستحق، ولا تتطلّب، كل هذا التفاوض بشأنها مع كل هذه القرارات الدولية الواضحة، علمًا بأنها أكثر قضية في التاريخ شهدت عرضًا تفاوضيًا، من حيث أمد المفاوضات ومواضيعها ومشكلاتها.
بديهي أن المطلبين الأول والثاني يفيدان بأن الغرض ليس حل السلطة، فهذا ليس بالأمر الهيّن، فضلاً عن أن ذلك يسهّل على إسرائيل، ناهيك أنه ينم عن عجز، وإنما الغرض هو تغيير وظائف هذه السلطة، واستعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني، وتركيز الاهتمام على إعادة بناء الكيانات الفلسطينية كما قدمنا، وتوفير المستلزمات لصمود الفلسطينيين في أرضهم، وتعزيز مقاومتهم للسياسات الاستيطانية والاحتلالية والعنصرية الإسرائيلية، بالوسائل الممكنة والمناسبة له.
كما أن هاتين المسألتين هما في متناول القوى الفلسطينية الحية والفاعلة، إذا حسمت أمورها، وغلّبت المصلحة الوطنية والمستقبلية على المصالح الخاصة والآنية. والراجح أن الظروف الراهنة مواتية لهذا التغيير، إن على الصعيد الدولي، مع تعزز مسار نزع الشرعية عن إسرائيل، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، والفجوة بين حكومات العالم من جهة وإدارة ترامب ومعها إسرائيل من جهة أخرى، كما على الصعيد الإسرائيلي، بعد تضاؤل شعبية نتانياهو، وتجدد التناقض بين العلمانيين والمتدينين في المجتمع الإسرائيلي، إثر تزايد نفوذ المتطرفين المتدينين وأحزابهم.
أيضا، يمكن للقيادة الفلسطينية اتخاذ خطوات غير تقليدية وشجاعة، من خلال إيجاد تشريع قانوني لمسألة الأرض، بتمليك الشباب، ما يوفر الحافز لهم للبقاء في أرضهم، بدلاً من تركها لنهب إسرائيل واستيطانها. واضح إن الشباب الفلسطيني يستحق بادرة من هذا النوع، على معاناته وتضحياته، ومن المدهش أن حركة تحرر لا تقوم بذلك، في حين أن إسرائيل تقتطع أراضي الفلسطينيين لمصلحة المستوطنين، الذين تقدم لهم فوقها الامتيازات والمساعدات للبناء والبقاء في الضفة. وطبعاً فإن تملك هذه الأراضي، أو إيجاد صيغة معينة لذلك، سيؤدي إلى استقرار الشباب، وتنمية الشعور بالأمل لديهم، كما أنه سيؤدي الى تشغيل قطاعات واسعة منهم والحد من البطالة، أي أن هذا المشروع يخدم الاستراتيجية المتعلقة بالصمود إزاء إسرائيل، وبناء المجتمع الفلسطيني.
القصد أن الرد على التحديات والمشاريع الإسرائيلية لا يكون فقط بالبيانات والمناشدات، أو بالتوجه إلى الأمم المتحدة، فذلك يتطلب استراتيجية كفاحية بديلة، تتأسس على بناء الذات، على أن تقترن بخطوات عملية حاسمة ومتوازنة.
الأوبزرفر العربي