بوتين بعد الفوز.. مآلات وتحديات
نهار الخميس الماضي، أعلنت رئيسة لجنة الانتخابات المركزية في روسيا “إيلا بامفيلون”، أن رئيس الدولة الحالي فلاديمير بوتين، فاز في الانتخابات الأخيرة بنسبة 87.25%، بعد أن نال 76 مليونًا و237 ألفًا و708 أشخاص من أصوات الناخبين.
للمرة الخامسة من العام 2000، يتربّع بوتين على عرش الكرملين، غير أن فوزه هذه المرة يبدو مغايرًا لكل المَرّات السابقة، لا سيما في ظل الحرب مع أوكرانيا، وتصاعد الصراع مع الدوائر الغربيّة، والمخاوف التي تشمل روسيا والعالم من الوصول إلى النقطة الحرجة، أي قارعة استخدام الأسلحة غير التقليدية في الصراع، حال قام الناتو بإرسال قوات برية أو أسلحة متقدّمة يمكنها أن تُخِلَّ بميزان الانتباه العسكري بين الجانبين.
يعِنُّ لنا أن نتساءل: “هل ستكون ولاية القيصر الجديدة سخاء رخاء، صفاء زلالاً، أم أن هناك الكثير من الصعوبات والتحدِّيات التي تواجهها؟
المؤكد أن سيد الكرملين يدرك تمام الإدراك أبعاد ما ينتظره من تحديات، ولهذا تَحَدَّثَ نهار الثلاثاء الماضي، وبعد أن تأكد من الأمر المؤكّد، أي فوزه الرئاسيّ، خلال اجتماع إدارة جهاز الأمن الفيدرالي بالقول: “التحديات التي نواجهها، ومحاولات تقويض تنميتنا، تتطَلَّبُ منّا العمل بشكل منهجي ومستمر في جميع المجالات، في الاقتصاد، في التكنولوجيا، في الثقافة، في المجال الاجتماعي، لتعزيز دولتنا ومؤسّساتنا العامة”.
يلفت الانتباه أول الأمر أن الاجتماع التأسيسي للولاية الجديدة، إن جاز التعبير، جرى مع الرموز الأمنية، وليس السياسية، وهذا له دلالات واضحة، حيث تبدو روسيا على موعد شبه نهائي في هذا العام، مع أزمة أوكرانيا، فإمّا النصر أو النصر، بمعنى أنه لا مجال للدبّ الروسي أن يُهْزَم، وحال رغب الناتو في التصعيد ومحاولة تركيع روسيا، فإن القيصر سيلجأ إلى سلاح النهاية الحاسم البَتَّار، وحيث لا يمكن معه سقوط روسيا ذات الأمجاد التاريخية.
من هنا تبدو المعضلة الأولى والتحدّي الأكبر الذي يواجه روسيا هو البقاء، وبخاصّة في مواجهة الدوائر الغربية التي ترفض صحوة العنقاء من الرماد.
الذين لهم دالة على فهم عقليّة الرئيس بوتين، يدركون قدر الألم والأسى اللذَيْن يستشعرهما، كلّما تذكر ما جرى للاتحاد السوفيتيّ في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والمهانة التي تعرَّض لها هذا الكيان الأممي الكبير، وهو يدرك اليوم أن هناك دون أدنى شَكّ، على الأقل من جهته، سيناريو مماثلاً يُرْسَم لروسيا الاتحاديّة لتفكيكها وتفتيتها، غير أنه مُتَنَبِّه لأقصى درجة، ومستعد للدفاع عن بلاده، حيث السقوط هذه المرة، يعني نهاية ألف عام من تاريخ القياصرة والبلاشفة والروس المحدثين دفعةً واحدة.
الأمر الثاني في تصريح بوتين، هو أن الرجل يكاد يرسم لوحة متكاملة في جميع المجالات، بمعنى أنه يتطَلَّع لنهضة روسية حقيقية، عبر الأمن والاستخبارات، عبر العلوم والتنمية، عبر مجتمع ديناميكي متفاعل، عينه على الحداثة، وفي الوقت نفسه محافظ على التراث.
يمكن للقيصر أن يفاخر ويجاهر، بأنه رغم كافة العقوبات الاقتصادية التي تمّ توقيعها عليه من جانب الغرب، استطاع أن يتجَنَّبها، وليس سرًّا القول إنّ بلاده تحقق مستويات جَيّدة من التنمية الاقتصادية، فقد عرف الطريق إلى بقية أرجاء العالم، لا سيما الكيانات الأممية الكبرى الرافضة لفكر الهيمنة الأميركية المنفردة.
استطاع بوتين خلال السنوات الأخيرة تعظيم التحالف مع جمهورية الصين والتي تمثل اليوم رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية، اقتصاديًّا بداية، وعسكريًّا في وضع لاحق، كذا مع بقيّة جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقًا، عطفًا على نجاحات واضحة في العلاقات مع العديد من دول القارة الإفريقية والتي كانت ترتبط بوشائج متينة مع موسكو في زمن الاتحاد السوفيتي.
مَدَّ بوتين جسورَ الصداقات من جديد مع دول نافذة في أميركا اللاتينية لا سِيّما فنزويلا والأرجنتين والبرازيل وغيرهم.
أما عن العالم العربي والشرق الأوسط، فالحديث عن النجاحات الروسية في عهد بوتين، تحتاج إلى قراءة مستقلّة قائمة بذاتها، ويكفي الإشارة إلى أنّ صورة الزعيم الوحيد التي رُفِعَتْ في ميادين ثورات الربيع العربي، إنّما كانت هي صورة الرئيس بوتين، رغم الدور الأميركي في إثارة تلك الثورات.
هنا يبدو من الطبيعي التساؤل: “هل يخشى الغرب من الولاية الجديدة للرئيس بوتين؟”
المؤكَّد جدًّا أن روسيا كان لها دورها الأساسي والمستمرّ في الدفع نحو فكرة التعدديّة القطبية، وهو الأمر الذي يترسّخ اليوم مع هذا الفوز الكبير، بل ربّما بات قادةٌ غربيّون من أمثال الرئيس الفرنسي ماكرون، يستشعرون خطرًا داهمًا لو مضى بوتين في طريق الفوز على أوكرانيا، ومن هنا تبدو المخاطر الحقيقية من تحوّل الأزمة إلى صراعٍ عالميٍّ لا يُبْقِي ولا يَذَرُ.
يبدو بوتين متمتّعًا بتعضيد داخلي كبير، لا سِيّما أنّ المؤسسة الدينية الأرثوذكسية، مُمثَّلة في البطريرك كييل، تدعمه بقوة غير مسبوقة، وهي الحاضنة التي حافظت على الروح الثيولوجية لروسيا القيصرية طوال سبعة عقود من الشيوعيّة التي سحقت ومحقت كافّة الأديان هناك وليس المسيحية فحسب.
يتذكر القارئ أنه في عام 2012، وصف كييل بوتين بالقول: “إنّه معجزة الله”. وعلى عكس ما تَدَّعي بعض المصادر الغربيّة، من أن البطريرك الشهير قال ذلك خوفًا من بوتين، يمكن القطع بأن رجل الدين الروسي الأشهر يؤمن تمام الإيمان بأن بوتين قد استرجع للإيمان حماسه وأشعل جذوته في البلاد الباردة، بل إنه حامي حِمَي المسيحيّة في الغرب كُلِّه، بعد أن تدهورت أوضاع المسيحية في أوروبا وأميركا، وغالب الظن أنّ ملايين الروس الذين انتخبوا بوتين يؤمنون بالمفهوم عينه.
يراهن بعض خبراء الغرب بأن روسيا الآن دولة ليست مستقرّة، ولا هي في وضع طبيعي، وأنّ الانتخابات الأخيرة تُمَثِّل ذروةَ ما يمكن وصفه بالمرحلة الأخيرة من الأيديولوجيّة “البوتينيّة”، التي بدأت مع الاستفتاء الدستوريّ في صيف عام 2020 عندما مَدَّدَتْ ولاية بوتين المحتملة حتى عام 2036؟
هل هذا رهان سديد أم أنه نوعٌ من أنواع البروباغندا المعادية لبوتين فحسب؟
ممّا لا شكّ فيه أن الحقائق هي التي ستحكم وليس الشعارات، بمعنى أن الأوضاع على الأرض هي التي تتكَلَّم في الحال وستفعل في الاستقبال، اقتصاديًّا وعسكريًّا، بمعنى: هل سيقدر للاقتصاد الروسي أن ينمو ليحقِّقَ مصالح الشعب الروسي في الداخل من دون أدنى تراجع في مستويات العيش أم لا؟
وعسكريًّا، يبدو الجواب ظاهرًا؛ فقدرة روسيا على إنتاج الأسلحة والذخائر، لا سِيّما الحديث منها كالصواريخ الفرط صوتيّة، يضع الدوائر الغربية في مأزق.
هنا ربّما يكون التحدي الحقيقي لبوتين هو الاستقطاب المجتمعي الداخلي، بمعنى: هل سيقدر له الحفاظ على وحدة الشعب الروسي حول هدف واضح هو حماية الإرث الروسي الإنساني والوجداني أمام مُخطَّطات الغرب أم لا؟
ربما يكون البحث عن الجواب أمرًا مبكرًا، لكن حكمًا “الدبّ لا يُقَيَّد والقيصر يملك أعينَ زرقاءِ اليمامة”.