بين أبوظبي ولندن
أحمد مصطفى
تعاني بريطانيا من أعلى ارتفاع لتكلفة المعيشة بين الدول المماثلة لتضافر عدة عوامل لا تقتصر فقط على الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.
من تلك العوامل تدهور الأجور رغم انخفاض نسبة البطالة والفشل في ضبط سوق التجزئة للطاقة للمستهلكين في بيوتهم ونقص بعض الأغذية الأساسية ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها بأعلى كثير من دول أوروبية وغربية.
هذا بالإضافة إلى زيادة الحكومة للضرائب لسد عجز الميزانية الناجم عن فترة أزمة وباء كورونا.
ومن العوامل المهمة أيضا اتساع عجز الميزان التجاري نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في أسوأ توقيت ممكن.
وبلغ عجز الميزان التجاري (الفارق بين عائد الصادرات وكلفة الواردات) في الربع الأول من العام ما يقارب ثلث تريليون دولار.
في استقصاء أجرته شبكة سكاي نيوز هذا الأسبوع، يقوم ربع البريطانيين بالتخلي عن وجبة غذاء يوميا لتتمكن الأسر من تحمل كلفة المعيشة.
ونسبة مماثلة تطفئ التدفئة في البيت لتتمكن من تحمل دفع فاتورة الغاز والكهرباء نهاية الشهر، ذلك رغم أن الصيف لم يأت بعد.
وفي الإجمال تشير نتائج الاستقصاء إلى أن أربعة من كل خمسة بريطانيين في غاية القلق حول قدرتهم على تحمل أعباء تكاليف المعيشة في الأشهر القادمة.
صحيح أن الأسعار ترتفع في كل دول العالم، ومعدلات التضخم عالية بسبب تبعات أزمة وباء كورونا ثم الحرب في أوكرانيا، لكن الوضع في بريطانيا يعكس أيضا سياسات الحكومة غير الرشيدة على عكس ما تفعل حكومات دول مثل ألمانيا وفرنسا أو حتى إسبانيا التي يعاني اقتصادها من أزمة وباء كورونا ربما أكثر من بريطانيا.
لكن الإسبان لا يعانون بقدر معاناة البريطانيين في مواجهة الارتفاع الصاروخي في تكلفة المعيشة.
يذكرني ذلك بالسياسة الداخلية للقيادة الإماراتية في عز أزمة وباء كورونا مطلع عام 2020، وكيف كانت مقولة سمو الشيخ محمد بن زايد وقتها “لا تشلون هم” مطمئنة للملايين في الإمارات، مقيمين ومواطنين.
وبالفعل، صدقت الأفعال الأقوال ولم يشعر أحد بأزمة رغم إغلاق أغلب اقتصادات العالم، فقد كانت القيادة مستعدة بالفعل وليس فقط بالقول من مخزون كاف وعقود توريد طويلة الأمد وتطوير الإنتاج المحلي من الزراعة والمواد الغذائية المصنعة.
صحيح أن الأسعار ترتفع في الإمارات مع ارتفاع معدلات التضخم في العالم كله، لكن نتيجة تلك الاستعدادات ليست بالقدر الذي تراه في دول متقدمة مثل بريطانيا أو دول نامية في مناطق أخرى.
تركت الإمارات مع بداية أزمة كورونا وعدت إلى بريطانيا، ومنذ ذلك الحين أشعر بالفارق في كل تفاصيل الحياة اليومية. لذا لا أستغرب فعلا كل البيانات ونتائج الاستطلاعات المتتالية في بريطانيا في الآونة الأخيرة والتي تظهر كيف أن البريطانيين “يشلون الهم” بقسوة حتى أصبحوا لا يثقون كثيرا في تصريحات السياسيين.
على العكس، شهدت الإمارات انتقالا سلسا للسلطة قبل أسبوع والناس في البلد في حزن على فقيدهم الراحل سمو الشيخ خليفة بن زايد لكنهم مطمئنون تماما لمستقبلهم في يد قيادتهم التي تعني ما تقول حين تطمئنهم.
في عز أزمة وباء كورونا، ولأن الناس تثق في قيادتها، جعلت عبارة “لا تشلون هم” أغنى الأغنياء في العالم يتركون بلدانهم “المتقدمة” ويتجهون إلى الإمارات ليقيموا فيها وقت إغلاقات كورونا.
والآن، يتضح الفارق أكثر بين أبوظبي ولندن. ففي الأولى التي عشت فيها لسنوات قبل تقاعدي من العمل الوظيفي لا تقلق بشأن المعيشة، أما في الثانية فالقلق دائم والتوقعات أسوأ.
ليست المشكلة في تطورات عرضية مؤقتة مثل تبعات الكوارث الطبيعية، وإنما في السياسات التي تضع احتياجات الناس الأساسية أولا وهدفها الاستدامة في تأمين ضروريات الحياة من غذاء وسكن وصحة وتعليم. هذا هو الفارق الهائل بين العيش في أبوظبي والعيش في لندن.
بالطبع ستجد على مواقع التواصل وغيرها من المنافذ المشبوهة ذات التوجهات المعروفة من يبث وينفث تلفيقا ومغالطات ودس معلوماتي. لكن أغلب هؤلاء إما يحكمهم حقد مسبق أو عقد الدونية تجاه “الخواجة”.
وليس أصدق ممن رأى بالعين وعاش بما يمس الجيب مباشرة. وبما أني، وغيري كثير، جربنا الحياتين فالعيش في أبوظبي أفضل بكل المعايير من العيش في لندن.
فهنيئا لأهل الإمارات، مواطنين ومقيمين، بما هم فيه من خير وحكمة قيادة وليعن الله أهل بريطانيا على ما هم فيه حتى تنصلح الأحوال أو يولى عليهم خير من سياسييهم الحاليين.
لا يغرنكم ما تسمعون وتقرأون أحيانا، ولا تأبهوا لمن يشعرون بدونية تجاه كل ما هو “أجنبي”، فالمستقبل لمنطقتنا وسيكون عنوان تلك الإمبراطوريات الغابرة: “ما دايم إلا وجه الله”.