بين استفزازات الغنوشي ورد قيس سعيد.. تونس إلى أين؟
الجمعي قاسمي
لم يكن ينقص تونس أزمات جديدة حتى تنفجر أخرى بعناوين مُغايرة لما هو سائد في واقع سياسي واقتصادي واجتماعي يتحرك بقوة ليرسم خطوطا انحداريه في تدحرجها السريع نحو مربعات فيها نزعة انتحارية تستهدف تدمير كل نافذة قد تتسلل منها بادرة أمل.
وشكلت استفزازات رئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، للرئيس قيس سعيد خلال الأيام القليلة الماضية، خاصة تلك التي سعى فيها إلى الانتقاص من دوره ومن صلاحياته التي نص عليها دستور البلاد، حلقة جديدة ليست منفصلة عن سياق الأزمات التي تعيشها تونس بظروف تعقيداتها المتنوعة.
وتزامنت هذه الاستفزازات التي أراد من خلالها الغنوشي اختبار ردة فعل الرئيس سعيد من خلال وصف دوره بـ”الرمزي”، مع تزايد مناورات حركة النهضة التي تدفع نحو محاصرته بجملة من الاتهامات المجانية وسط تلويح بـ”عزله” من منصبه.
هذه المناورات تتعدّل وتتغير وفقا لقواعد اشتباك سياسي يحاول الغنوشي فرضه بسلسلة من الألاعيب المزدوجة تميزت بتقاسم الأدوار مع حليفيه حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة المُثير للجدل اللذين صعّدا أيضا من خطابهما ضد الرئيس سعيد.
وسعى الغنوشي الذي لا يُخفي رغبته في إحداث تغيير كبير في معادلات المواجهة الراهنة لصالحه، إلى الإبقاء على خيارات أخرى على طاولة هذه الألاعيب المزدوجة، منها الزج برئيس الحكومة هشام المشيشي في المواجهة واستخدامه ورقة ضغط، قد تكون مقدمة أو قصفا تمهيديا للاستخدام حين تنضج اللحظة.
ويبدو أن هذه اللحظة التي كثيرا ما تحدث عنها الرئيس سعيد في خطاباته، قد اقتربت وحان أوانها، بعد دخول المشيشي مربع ألاعيب الغنوشي بإعلانه أنه “من غير الممكن البقاء بوزراء لم يباشروا مهامهم”، وذلك في إشارة إلى الوزراء الذين شملهم التعديل الحكومي الأخير والذين نالوا ثقة البرلمان، لكنهم لم يؤدوا اليمين الدستورية أمام الرئيس سعيد إلى غاية الآن.
وبهذا الإعلان، أخذت خطوط جبهة المواجهة بين الرئاسات الثلاث في تونس تتحرك بقوة اختلطت فيها الحسابات لتُشكل جملة من الاعتبارات الجديدة التي تهدف إلى تحويل وجهة الصراع نحو مربعات أخرى هدفها إحراج الرئيس سعيد، عبر إظهاره في صورة المهدد لاستقرار مؤسسات الدولة.
وتكشف هذه المناورة التي جاءت على أرضية تقاسم الأدوار والأهداف بين الغنوشي والمشيشي، أن أوراق الضغط وصلت إلى آخر فصولها. لذلك سارع الرئيس سعيد إلى الردّ عليها بخروج مفاجئ إلى شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة، والالتحام بالشعب في تحرك سياسي مزدوج، الأول موجه مباشرة إلى الغنوشي، والثاني إلى المشيشي.
وأراد الرئيس سعيد في الشق الأول من تحركه توجيه رسالة واضحة إلى الغنوشي، مفادها أنه ابن الشعب، ويستمد قوته من الشعب ولا يخشى الالتحام به، وهو الذي فاز بأصوات نحو ثلاثة ملايين تونسي، بينما الغنوشي وصل إلى البرلمان بأصوات ناخبين لم يتجاوز عددهم 30 ألفا.
وتأخذ هذه الرسالة بعدا إضافيا من خلال الشعارات التي رفعت أثناء حديث الرئيس مع المواطنين وخاصة منها “الشعب يريد حل البرلمان”، وهو شعار تردد بقوة أثناء الاحتجاجات وبات يقض مضجع الغنوشي الذي يرأس حاليا البرلمان.
وتذهب التقديرات إلى أن الغنوشي الذي تُجمع غالبية مراكز سبر الآراء على أنه لا يحظى بأي شعبية، أصابه نوع من القلق والهلع من الصورة التي عكسها التحام الرئيس سعيد بالشارع، وهو هلع دفع صهره رفيق عبدالسلام إلى القول في تدوينة له إن “من يمنّي نفسه بحل البرلمان وإقامة نظام الحكم الفردي على طريقته ويتصور أن المسألة أقرب إليه من حبل الوريد، واهم”.
وأضاف عبدالسلام، الذي فرضه الغنوشي عضوا في المكتب التنفيذي لحركة النهضة الإسلامية في لهجة لا تخلو من التحدي الذي يُخفي قلقا يصعب حجبه، قائلا “نحن هنا.. ولا يغرّنكم بعض الضجيج والشعارات التي ترفعها تنسيقيات اللجان الشعبية”.
وتأتي وطأة الرسالة الثانية بعناوين أخرى من شأنها إفشال تلك المناورات، حيث عمد الرئيس سعيد بعد ذلك إلى زيارة مقر وزارة الداخلية التي يتولى شؤونها بالنيابة المشيشي الذي كان في استقباله واستمع إلى كلامه الذي أكد فيه أن “الدولة مُستمرة ولا يقبل بضرب مؤسساتها”.
وكان تأكيد الرئيس سعيد على رفضه القاطع لـ”محاولات البعض توظيف المؤسسة الأمنية واستغلال الأوضاع الحالية لفائدتها”، بمثابة الإنذار الذي تردد صداه في مقر حركة النهضة ورئيسها الغنوشي، خاصة وأنها تُتهم بالسعي إلى التسلل إلى المؤسسة الأمنية بهدف توظيفها لخدمة أجنداتها في سياق محاولاتها المستمرة للسيطرة على المفاصل الرئيسية للدولة.
ولا شك أن مناورات وألاعيب حركة النهضة التي أحدثت شرخا بين الأحزاب والقوى الوطنية ومؤسسات الدولة، وساهمت في تعميق الصراع بين الرئاسات الثلاث، لن تتوقف عند هذا الحد، لكن في المقابل هناك حراك بدأ يتبلور للدفع نحو عملية فرز حقيقي بين مشروعين، يُحاول الرئيس سعيد ضبط حوافه بخطوات تبدو إلى غاية الآن ثابتة.
ومع ذلك، نعتقد أن قواعد الاشتباك السياسي مازالت مُتحركة وربما مُنزلقة مع مزيج من الانتظار المحمول على تطورات لاحقة لا تزال الكثير من الأطراف تحاول تحديد عناوينها بحيث يصعب معها الجزم بالنهايات، ليبقى السؤال المطروح برسم الأيام القادمة، تونس إلى أين؟