تحالف الدبيبة مع أمراء الحرب في طرابلس يجدد المخاوف الليبية من عودة الاقتتال
كشفت محاولة رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا دخول العاصمة الليبية طرابلس حجم التصدع الذي يعانيه غرب ليبيا عموما والميليشيات المسلحة الموجودة في طرابلس خاصة، وهو ما يثير المخاوف من عودة الاقتتال إلى العاصمة، بعد سنتين من الهدوء النسبي.
وسيكون أمام الليبيين الكثير من التحديات السياسية والأمنية خلال المرحلة القادمة، وسيدفع رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة إلى أزمة قد تكون غير مسبوقة في السنوات العشر العجاف التي عرفتها البلاد بعد أن دخلت مرحلة الصراع على السلطة والتنافس على الغنيمة.
فالدبيبة الذي بات رمزا لتحالف أمراء الحرب ورموز الفساد والجناح المتشدد لتيار الإسلام السياسي والقيادات الجهوية الانعزالية، هو ذاته الذي يطمح إلى البقاء في سدة الحكم إلى أجل غير مسمى، والذي لا يخفي رغبته في تحويل ليبيا إلى رهينة لدى منظومته الأسرية والفئوية بعد أن اكتشف أن هناك آلية متاحة لتحقيق تلك الرغبة وهي الثروة عبر توزيع أوهام الرفاه على الشعب في الداخل والعقود الضخمة على الشركات العالمية المؤثرة في تحديد سياسات الدول التي تنتمي إليها.
سحب الثقة
وفي محاولة للتغطية على ذلك يزعم الإصرار على تنظيم الانتخابات في أقرب وقت ممكن انسجاما مع حالة الخداع المفضوح التي تمارسها الدبلوماسية الأميركية المخضرمة ستيفاني ويليامز من موقعها كمستشارة سياسية للأمين العام للأمم المتحدة مكلفة من باب الإسقاط المتعمد بالإشراف على الملف الليبي لمصلحة إدارتها الأصلية في واشنطن على حساب إدارتها الوظيفية الطارئة في نيويورك.
واجه الدبيبة قرار مجلس النواب سحب الثقة منه وتكليف فتحي باشاغا رئيسا لحكومة جديدة بالتجاهل وعدم الاكتراث، واعتمد على خارطة العلاقات والمصالح في الداخل والخارج لتنصيب نفسه حاكما متفردا على العاصمة في غياب أي دور عملي للمجلس الرئاسي، وعرف من خلفيته كرجل أعمال كيف يمسك بخيوط اللعبة المالية والاقتصادية من خلال تحالفه المعلن مع محافظ مصرف ليبيا المركزي الصدّيق الكبير، ورئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك، مع سيطرته على المؤسسة العسكرية بالمنطقة الغربية من خلال إدارته لحقيبة الدفاع التي تمكّن من وضع اليد عليها منذ الإعلان عن تشكيل حكومته في مارس 2021، وكأنه كان يعدّ نفسه للتمرد على تعهداته السابقة ولاسيما تلك المعلنة أمام ملتقى الحوار السياسي بجنيف ثم أمام جلسة منحه الثقة من قبل البرلمان في مدينة سرت.
المال والميليشيات
واعتمد الدبيبة على فكرتين أساسيتين: تتمثل الأولى في إشباع نهم قادة الحرب وزعماء الميليشيات للمال والنفوذ، والدخول معهم في تحالفات التمكين المتبادل مناقضا تعهداته السابقة بأن تكون حكومته حكومة وحدة وطنية وأن يكون هدفها تحقيق المصالحة الوطنية، ولكن لا شيء من ذلك قد تحقق، وإنما بات هدفه الأساسي هو التركيز على فكرة التقسيم والثأر من المنطقة الشرقية وقيادة الجيش ومجلس النواب والتلاعب ببعض رموز النظام السابق، وتجيير ذلك في تكريس تحالفه الذي خرج من تحت طاولة حكومة الظل في إسطنبول، ليعلن عن نفسه في طرابلس، مع الجماعات المتشددة والميليشيات المحسوبة على الصادق الغرياني المفتي الذي يمثّل عنوانا لطبيعة الانقسام الحاصل في البلاد، فهو يحرّض بعض الليبيين على البعض الآخر، ويبتهج لمقتل البعض على يد البعض الآخر، ويكفّر الأغلبية بما يخدم أجندة الأقلية، ويمارس لعبة الإفتاء بما يخدم قناعاته السياسية على حساب الدين.
ورغم أن مجلس النواب قرر عزله من منصبه منذ أكتوبر 2014 بعد تورطه المباشر في دعم المجموعات المتطرفة في بنغازي إلا أنه واصل العمل كرئيس لدار الإفتاء سواء من داخل ليبيا أو من تركيا، واستمر في لعبة التحريض عبر منصاته الإعلامية، وهو اليوم واقف بقوة في صف الدبيبة ولا يبدي أي شكل من أشكال التحفظ في التهجم على الدول العربية المعتدلة ولاسيما الإمارات والسعودية وصولا إلى مصر التي لا يزال يحرّض ضد قيادتها وحتى ضد تمثيلها الدبلوماسي في طرابلس.
الرفاه والرخاء
أما الفكرة الثانية التي اعتمدها الدبيبة فهي وهم تحقيق الرفاه والرخاء عبر التوزيع العادل للثروة على الليبيين، والانطلاق في سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالرواتب والحوافز والمساعدات وتزويج الشباب ومساعدة الفقراء والأرامل والمتزوجات من الأجانب وغيرهم، ويبدو أنه حاول استغلال شعور متوارث ومكبوت لدى أغلبية مواطنيه بأن الشعب الليبي محروم من عائدات ثروته النفطية منذ عقود خلت بينما كان بإمكانه أن يعيش الرفاه كشعوب الخليج، وكان يمكن أن يحصل كلّ مواطن على حقه في الخدمات الأساسية وألّا يضطر إلى الانتظار أمام شبابيك المصالح الحكومية ذات الخدمات المتعثرة، إلا أن ذلك الوهم تعرّت حقيقته وتبين أنه غطاء لطمع الدبيبة في التمكن من مقاليد الحكم إلى أجل غير مسمى بما يخدم مصالح فئة قليلة ممن يديرون سوق الاعتمادات والمضاربة ودبلوماسية العقود.
ويحاول الدبيبة أن يغطي على تلك الممارسات بشعاراته المرفوعة بخصوص الانتخابات التي ينظر إليها كعملة ذات وجهين: الوجه الأول أن تنتظم فيسيطر على نتائجها بقوة المال والنفوذ باعتبار إقليم طرابلس صاحب الثقل الديمغرافي والسياسي الذي سيعطي فريقه أغلبية تؤهله لتشكيل الحكومة القادمة، والوجه الثاني ألا تنتظم الانتخابات ليجد في ذلك حجة التمسك بالكرسي باعتباره المؤتمن على مؤسسات الدولة إلى حين تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة.
تصدع جبهة الدبيبة
وفي الوقت الذي تباشر فيه الحكومة الجديدة المنبثقة عن مجلس النواب عملها من سرت وكأنها تتمدد على سرير الهلال النفطي وتتوسّط موانئ التصدير، يجد الدبيبة نفسه أمام تصدع واضح في جبهته ولاسيما بعد مغامرة فتحي باشاغا المفاجئة بالدخول إلى طرابلس، ثم اضطراره إلى مغادرتها تجنبا لحرب كانت ستندلع بين الميليشيات المنقسمة في ولاءاتها بين الحكومتين؛ فبينما يمكن القول إن باشاغا يسيطر فعليا على مقاليد السلطة في برقة وفزان وفي جزء من المنطقة الوسطى ومنها عاصمته المؤقتة سرت الخاضعة لنفوذ الجيش الوطني، يتعرض الدبيبة لنذر الحريق الذي اقترب من طريق السكة، ولاسيما بعد اندفاعه للدخول في مواجهة مع بعض القيادات الميدانية المؤثرة في المنطقة الغربية بامتداداتها القبلية والميليشياوية وأبرزها اللواء أسامة الجويلي الذي قرر عزله من منصبه كرئيس لجهاز الاستخبارات العسكرية دون اعتبار لموقعه في المعادلة الميدانية والاجتماعية، وذلك عقابا له على مساندته لباشاغا والتي كان بالإمكان قراءة خلفيتها في سياقها السياسي لفهم طبيعتها وعدم التورط في إضفاء صبغة التمرد العسكري على موقف من صراع حكومي قائم.
تحالف مع أمراء الحرب
تحصّن الدبيبة في مواجهة منافسه باشاغا بميليشيات كان قائدها الفعلي هو غنيوة الككلي أمير الحرب ورئيس ما يسمى جهاز دعم الاستقرار بقرار صادر عن المجلس الرئاسي السابق، والذي يدور سجال حاد حول وضعيته القانونية بعد أن اتهمته منظمة العفو الدولية هو ومساعده لطفي الحراري بأنهما يقودان ميليشيا ويرتكبان انتهاكات ويتقلدان مناصب في الدولة، وأن جهازهما يقوم “باعتراض طرق المهاجرين واللاجئين واحتجازهم تعسفيا بعد ذلك، وممارسة التعذيب وفرض العمل القسري وغير ذلك من الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان وجرائم مشمولة في القانون الدولي”، وقد سعت الحكومة المنتهية ولايتها إلى التصدي لتقرير المنظمة بمحاولة تلميع صورة غنيوة والحراري وتبرئتهما من كل ما نسب إليهما خلال السنوات الماضية، والدفع بوزيرة العدل حليمة البوسيفي إلى ترويج صورة أخرى عنهما تمتاز بالنزاهة الوظيفية والنقاء الثوري والانضباط القانوني ونظافة اليد.
ومستثمرا علاقة التحالف التي تجمعه بمحافظ المصرف المركزي تحت مظلة علاقات مصلحية مرتبطة بعاصمتين غربيتين وأخريين إقليميتين على الأقل، وقدرته على توفير الإمكانيات المالية لإرضاء أمراء الحرب وعمداء البلديات وبعض الزعماء القبليين وأصحاب القرار في محيطه المباشر، والعداء المعلن ضد قيادة الجيش الوطني انطلاقا من خلفيات عقائدية وحزبية وقبلية ومناطقية وسياسية، والاعتراف الدولي الذي لا يزال يحظى به في سياقات الصراع التنافسي على مصالح الدول الخارجية داخل الجغرافيا الليبية وحولها، يخطط الدبيبة للاستمرار في الحكم ويناور من أجل تهميش مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه وقيادة الجيش، ولكن ذلك يصطدم بعدد من العوامل المهمة أهمها أن وجود مفاتيح مصرف ليبيا المركزي في طرابلس لا يمنع من أن منابع الثروة التي تتحقق من ورائها الإيرادات الضخمة توجد في حيز نفوذ الجيش الداعم لحكومة باشاغا والمعترف بها دون غيرها، وهو أمر تدركه جيدا القوى الخارجية وعلى رأسها واشنطن ومن بعدها الأمم المتحدة.
مفتي الإرهاب
وفي الوقت الذي ينادي فيه باشاغا بالمصالحة الوطنية ويمارس ذلك على أرض الواقع، وهو الذي كان من أكبر خصوم قيادة الجيش قبل أن يدشن معها مرحلة وفاق على طريق طي صفحة الماضي الأليم، يعتمد الدبيبة على سياسة “فرق تسد” متجاوزا شعاراته السابقة وأهداف المجتمع الدولي من تشكيل حكومته، وهو يقف اليوم في صف واحد مع مفتي الإرهاب وفلول الجماعات التكفيرية الفارة من شرق البلاد ومع أمراء الحرب وشبكات التهريب والاتجار بالبشر ودواعش المال العام، ومع القوى الأجنبية التي لا تنفي أطماعها في وضع يدها على مقدرات البلاد بشكل سافر.
لكن حتى ذلك التحالف قد يتصدع في أية لحظة، فالقوى الوطنية سواء في طرابلس أو مصراتة أو الزاوية أو غيرها تدرك أن الحل الذي تحتاج إليه البلاد هو إعلان المصالحة التي تنهي الصراع والتوتر والقلق الذي يحاصر أغلب الأطراف بما فيها الجماعات المسلحة التي يمكن أن تدخل ضمن سياق وفاقي عام تضمنه حكومة الاستقرار بغطاء تشريعي واجتماعي، وتوحيد مؤسسات الدولة واجتثاث مافيات الفساد التي استحوذت على مقدرات الدولة، واستعادة سيادة ليبيا كدولة تتطلع إلى أن تكون حرة وديمقراطية وضامنة لحقوق جميع أبنائها.
ومع تصدع جبهة الدبيبة تواجه ليبيا نذر الحرب من جديد في المنطقة الغربية، فالحكومة المنتهية ولايتها والتي تعتبر نفسها اليوم حكومة أمر واقع تسعى إلى فرض خياراتها وأجنداتها بقوة سلاح الميليشيات، وهي تدرك أن هناك قوى حقيقية على الأرض لا توافقها على ذلك، وتبدي تعاطفها مع الحكومة الجديدة، وما حدث عند وصول باشاغا إلى طرابلس يؤكد ذلك، فقد وصل بمساندة موالين لمشروعه، وعندما يقرر الدبيبة معاقبتهم فهو يدفع نحو حرب ولاءات قد يكون الخاسر الأول فيها.