تركيا بين آثار الزلزال وتحديات الانتخابات
أوراق المشهد الداخلي التركي الماثل اليوم تبدو كأنها قد اختلطت بفعل مؤثرَيْن.
أحد هذين المؤثرين من فعل الطبيعة حين ضربها زلزال مدمر وما خلفه من نتائج قاسية على الحجر والبشر من جانب، والآخر بسبب المناخ الذي كانت قد أشاعته المناكفات الحزبية والسياسية بين السلطة والمعارضة قبل الكارثة من جانب آخر، على خلفية الاستعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
الرهانات والتجاذبات الحزبية، التي تصاعدت قبل حدوث الزلزال تغيرت بنسبة عالية بعده لحين من الزمن.. تراجعت حدة التنافس الخطابي بين الطرفين، ووقف الجانبان أمام تحدي الطبيعة من منظار وطني إنساني شامل تقلّصت بموجبه، مرحليا، النزعات الحزبية أمام جراح الإنسان التركي، الذي ظل فترة من الزمن تحت هول الكارثة. حاولت بعض الأوساط التركية استغلال مزاج الإنسان التركي المصدوم، والتأثير في ميوله تأسيسا للحصول على مكاسب محتملة في صناديق الاقتراع، التي باتت على الأبواب بشقيها البرلماني والرئاسي.
حسم الرئيس أردوغان المساجلات والتكهنات حول موعد الاستحقاق، الذي يبدو أنه الأهم والأصعب له ولمنافسيه على حد سواء، بأن أكد أن موعدها في الرابع عشر من شهر مايو/أيار المقبل.
يعكس تصدي الرئيس التركي لهذه المسألة الحساسة مجموعة دلالات: أولها القناعة بضرورة فصل مجريات العمل الرسمي والحزبي والحكومي المتعلق بمعالجة آثار الزلزال عن موعد الاستحقاق الدستوري.
وثانيها الرهان على الوقت والزمن بصرف النظر عن وطأة الظرف الطارئ.
وثالثها القرار بالخروج من تحت ضغط الصدمة، دولة وشعبا وأحزابا ومؤسسات.
الملامح الأولية، التي ارتسمت في الفضاء التركي إبان الزلزال، أوحت بصعوبة الخروج من دائرة ضغوطات الواقع، الذي فرضته كارثة الزلزال، ليس على الصعيد الإغاثي من جانب حكومة “العدالة والتنمية” فحسب، بل وعلى الصعيد السياسي داخليا بسبب حدة التنافس الممهد للحملات الانتخابية، والاستقطاب الحاد الذي برز على المستويات الحزبية والشعبية.
فقبل حدوث الزلزال، دخلت أحزاب المعارضة الستة في مخاضها الذاتي لاختيار شخصية متفق عليها بالإجماع كي تدفعها للمنافسة على المقعد الرئاسي لمنافسة الرئيس أردوغان، الذي انخرط في العمل وفق استراتيجية مزدوجة، داخلية تقوم على حشد مؤيديه واستقطاب شرائح اجتماعية أخرى، وخارجية باتجاهين، الأول يصب في نطاقه الإقليمي من خلال الانفتاح على محيطه العربي عموما وفتح نافذة التقارب مع سوريا بشكل خاص، والثاني استثمار مكاسب سياسته الإقليمية في تقليص هوامش معارضيه ضده، والعمل على تحويلها إلى نقاط إضافية لمصلحته ومصلحة حزبه كي يعزز حضوره وحظوظه بين أوساط الناخبين الأتراك، على أمل أن يتم ترجمتها كأوراق في صناديق الاقتراع.
مع كل يوم يمر على الفاجعة التي ألمت بتركيا فجر 6 فبراير/شباط الماضي، تنجلي غشاوة غبارها عن سماء البلاد وعن عيون العباد تدريجيا، وتتضح الرؤية أكثر أمام الأتراك، فبينما هم يطوون سطور الأمس الدامي بخطى مثقلة بأوجاع وأحزان ما خلفته الكارثة في القلوب وفي الأرواح، فإنهم على موعد ينطوي على تحديات مفصلية يصفها كثير من الأتراك بالمعيار الأهم في تحديد وجهة مسيرة جمهوريتهم ومستقبلها، وهو موعد يقترب نحو اللحظة الحاسمة بالتزامن مع عودة الروح إلى مفاصل الأحزاب كلها وقواعدها الشعبية بعد تخطي صدمة الزلزال.. وبالتالي لن يكونوا بمنأى عن خوض غماره، ما يعني أن هذا الاستحقاق سيفرض منطقه ومتطلباته على الجميع.
المؤشرات العملية على تدشين خطوط المنازلة الانتخابية بين الأحزاب تتضح يوما بعد يوم، وقد تمت الإطاحة بوحدة الصف بين المعارضة والموالاة، التي فرضتها أفعال الطبيعة القاهرة قبل شهر تقريبا، وارتسمت خطوط المواجهة مجددا، وهي التي لم تكن قد اندثرت أساسا بين المتنافسين، وإن كانت قد سكنت مؤقتا وهدأت.
أبواب الانقسام الحزبي عادت لتشرع ثانية، ومهما حاولت الأطراف الحزبية المتنافسة عزل المؤثرات التي تراكمت في نفس الإنسان التركي جراء الكارثة وما أحدثته من تصدعات روحية لدى كثير منهم، فإن ميول الناخب التركي لن تكون بمنأى عن ترسبات الفاجعة، وإنْ بدرجات متفاوتة، ومن المرجّح أن ينهمك المتنافسون على مقاعد البرلمان وعلى المقعد الرئاسي في عمليات توظيف انتخابي، سواء لتجنبها، أو لتفعيلها، وفقا لرغبات وأهداف كل طرف.