تلويح الاتحاد التونسي للشغل بالإضراب العام يمهد للصدام مع السلطة
فجأة بعد صمت طويل، عدا بيانات لتسجيل الحضور، عاد الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الواجهة بشكل صدامي مع السلطة بعد بيان سياسي رفض فيه قرار هيئة الانتخابات رفض مرشحي المعارضة الذين أعادتهم المحكمة الإدارية، والتلميح إلى أن القرار خادم لقيس سعيد. والآن تأتي الدعوة إلى الإضراب التي صدرت عن المجلس الوطني، وهو المؤسسة التي تجمع ممثلي الجهات والقطاعات، والتي تحدد توجهات المنظمة النقابية في المرحلة القادمة، في رسالة واضحة إلى الرغبة في التصعيد واستعادة المبادرة التي فقدها الاتحاد منذ 25 يوليو 2021.
لا يمكن النظر إلى قرار الإضراب على أنه تحرك اجتماعي، حتى لو كانت المبررات التي يرفعها الاتحاد ذات بعد اجتماعي من نوع غلاء الأسعار وتراجع المقدرة الشرائية للعمال. عادة التحركات الاجتماعية تبدأ بالتدريج وتحصل إضرابات جزئية وأخرى قطاعية بمطالب خاصة بالقطاعات المعنية مثل التعليم والصحة.
الاتحاد لم يتدرج في إضراباته هذه المرة، ستكون إضرابات متزامنة في قطاعات مختلفة في نفس الوقت، وهو ما يعني أنها رسالة سياسية أكثر منها مطالب وإقامة الحجة على الوزارة أو الإدارة المعنية بالإضراب.
جرّب الاتحاد الإضراب العام خلال حكم النهضة مرتين في 2013، وكان لذلك دور رئيسي في إسقاط حكمها، ما بوّأه منزلة “حكيم الثورة” لدى الأحزاب المناوئة للنهضة، ومكّنه من أن يصبح شريكا فوق العادة لكل الحكومات إلى حين إجراءات 25 يوليو 2021. الرئيس قيس سعيد رفض مقترحات كثيرة من الاتحاد لرعاية حوار وطني أو لتقديم خارطة طريق، وعمل على إعادة الاتحاد إلى مربعه الاجتماعي.
وفي يونيو 2022 دعا الاتحاد إلى إضراب عام لم تكن نتائجه في مستوى ما كان قادة المنظمة يأملون في تحقيقه، فلم يتراجع قيس سعيد، ولم يفتح باب الشراكة السياسية التي كان يسعى لها الاتحاد لتكرار مع حصل مع حكومات سابقة. الأسوأ هو الذي حصل، فقد قاد ذلك التصعيد ومواقف أخرى للمنظمة إلى قطيعة سياسية مع مؤسسة الرئاسة، مع تواصل العلاقة بين ممثلي النقابات والوزارات المعنية. القطيعة مع قيادة الاتحاد الباحث عن دور سياسي وطني إلى جانب السلطة وليس مع عملية التفاوض في حد ذاتها، والتي تأخذ منحى متعثرا في بعض القطاعات وآخر إيجابيا في قطاعات أخرى.
لماذا الإضراب العام الآن؟ التفسير الأقرب والأكثر تداولا بين أنصار الاتحاد وخصومه، هو أن المنظمة قررت أن تنخرط في التحركات الهادفة إلى الضغط على قيس سعيد. الاتحاد وجد أن الفرصة مواتية، فهناك أزمة تحيط بالانتخابات، والمعارضون بمن في ذلك قادة الاتحاد يعملون على استغلال موقف هيئة الانتخابات القائم على رفض قرار المحكمة الإدارية في موقف قانوني ضعيف وحرّك ضدها كل الخصوم.ووصف الاتحاد قرار الهيئة بأنه “تجاوز خطير للقانون وتكريس لقرار سياسي”.
وأكد في بيان رفضه “لهذا القرار الخارج على القانون واعتباره توجيها ممنهجا ومنحازا وإقصائيا وتأثيرا مسبقا على النتائج”، مضيفا أنه “ضرب صارخ للسلطة القضائية ولأحكامها”.
لم يكن الهجوم على الهيئة من النهضة وحلفائها وإلا ما كان الاتحاد أبدى كل هذه الحدية في مواقفه من بيان قوي ثم التلويح بورقة الإضراب العام. لم يكن قادة الاتحاد ليظلوا بمنأى عمّا يجري في ظل مواقف متزامنة صادرة عن حلفاء المنظمة والوسط القريب منها من منظمات حقوقية وجمعيات وقضاة وأساتذة جامعيين. الاتحاد بطبعه يريد أن يعود إلى الواجهة وليس أفضل من هكذا فرصة.
ليس مهمّا ماذا يقول الاتحاد أو ماذا يريد من وراء التلويح بالإضراب العام. تحاليل المتابعين تقول إن الهدف إرباك الانتخابات في تعبير عن قرار حاسم بالقطيعة مع قيس سعيد، أو التلويح بإرباك الانتخابات لاختبار موقفه وهل أنه يمكن أن يفتح بابا للحوار والانفتاح على الاتحاد، ولو في اللحظات الأخيرة، ليكون شريكا في المرحلة القادمة، أي الولاية الرئاسية الجديدة للرئيس الحالي.
من الصعب أن يقبل قيس سعيد بالحوار تحت الضغط خاصة حين يكون الاتحاد في موقف المتحالف مع من يتهمهم الرئيس الحالي بشتى الاتهامات ومن بينها العلاقة بالخارج والسعي لعرقلة عمل مؤسسات الدولة والتحالف مع اللوبيات. من منظار السلطة، فإن الاتحاد قطع شعرة معاوية ووضع نفسه في قائمة الخصوم، وهو عمليا حليف لمنظومة 2011 بمختلف تشكيلاتها، ومنظومة مع قبل 2011، أي هو في صف النهضة والمرشحين القريبين منها، وفي صف منذر الزنايدي، وأنه يركب موجة العداء لقرار هيئة الانتخابات لاستعادة دوره المفقود “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”، ولو بالتحالف موضوعيا مع خصومه التاريخيين.
لكن مراقبين من المنظمة النقابية التونسية لا يستبعدون أن يكون التصعيد المفاجئ نتيجة لأزمة داخلية حادة يعيشها الاتحاد. تحييد المنظمة وجعلها على هامش المشهد السياسي وإلزام قادتها مربع التحرك الاجتماعي وتقلص ظهورها الإعلامي إلى درجة الغياب لأشهر كلها عناصر جعلت الاتحاد يعيش أزمة في الداخل تقوم على تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن تحجيم دور المنظمة بعد أن كانت في الواجهة.
هناك تيار داخلي ينتقدها لأنها رضيت بالمربع الذي حدده لها قيس سعيد، وأنه كان عليها أن تختار التصعيد من البداية ليعرف أنه يتعامل مع منظمة لها وزن وتاريخ وقدرة على ليّ الذراع، لكن الصمت والاكتفاء بتصريحات ضعيفة تدعو إلى الحوار الوطني، جعلا السلطة تسجل نقاطا على حساب الاتحاد وتكتشف أنه مجرد بعبع حين تضغط عليه يختفي صوته.
جزء من هذا التيار من الإسلاميين وحلفائهم، الذين يتهمون قيادة المنظمة بأنها لعبت أجندة سياسية في الماضي لارتباطها ببعض دوائر الدولة العميقة وأنها الآن باتت عاجزة عن مجرد المناورة.
التيار الداخلي الثاني يقف ضد فكرة التصعيد مع السلطة والضغط على قيس سعيد وإضعافه ويعتبر أن ذلك يصبّ في صالح النهضة والمجموعات الليبرالية ودوائر النفوذ الداخلية (اللوبيات) والخارجية. ويتكون هذا التيار من مجموعات قومية ويسارية لديها وزن في الهياكل الوسطى والصغرى داخل المنظمة، وهي التي خاضت قبل أيام احتجاجا أثناء انعقاد اجتماع للاتحاد، واتهمت القيادة الحالية بخدمة أجندة خصوم قيس سعيد.
ويستفيد هذا التيار من ورقة تعديل الفصل 20 من قانون المنظمة، الذي سمح للقيادة الحالية بالتمديد لنفسها، وهو يتخذه مدخلا في حملته ضدها، ما دفع الكاتب العام للاتحاد نورالدين الطبوبي في اجتماع المجلس الوطني إلى الاعتذار عن هذا التعديل والدعوة إلى التوافق حول مؤتمر عادي للمنظمة وليس مؤتمرا استثنائيا، بمعنى مؤتمر ينتخب قيادة جديدة.
وأخذت الحملة على الاتحاد أبعادا أخرى من رموز تيار المعارضة النقابية وأنصاره على مواقع التواصل، واستعادوا خطاب الإسلاميين المناهض للمنظمة من خلال دعوة النقابيين إلى الانسلاخ (الانشقاق) وسحب العضوية، ودعوة الإدارة إلى عدم تحويل أموال المنتسبين (المنخرطين) إلى الاتحاد، وكذلك فتح الملفات المالية للمنظمة والتحقيق في الاتهامات بالفساد التي توجه بمناسبة ودونها ضد قادة المنظمة.
ما كان واضحا هو وجود تلاق موضوعي ضد القيادة الحالية بين أنصار التيار المعارض المحسوبين على قيس سعيد وأنصار النهضة الذين لا يثقون بتغيير موقف المنظمة رغم أنه يخدمهم ولو ظرفيا.
ويحذر نقابيون من خطر التصعيد مع قيس سعيد في هذا الوقت لأنه سيعني التمهيد لمواجهة مع السلطة، لافتين إلى أن الوضع مختلف الآن، وأنه غير المناخ الذي ساد قبل مؤتمر الحوار الوطني في 2013، وأن سلطة النهضة غير سلطة قيس سعيد، وأن المنظمة وإن كانت استفادت من دورها في 2013، فهي الآن يمكن أن تخسر وتجد نفسها في مواجهة ليست في وقتها بمقياس موازين القوى.
المنظمة متراجعة وتهزها خلافات كثيرة، والهروب إلى الأمام قد يجلب مكاسب ظرفية ومنها إضعاف الأصوات المعارضة، لكن لا أحد يضمن رد فعل السلطة على التصعيد من جانب الاتحاد، خاصة أنها لا تضع في حسابها معطى الضغط أو عدم ملاءمة الظرفية السياسية، والدليل وضع المعارضين في السجن بالرغم مما تبعه من انتقادات وبيانات وشكاوى.
بقي سؤال مهم حول سبب التصعيد المفاجئ: هل شعر الاتحاد بأن الدور عليه بعد الانتخابات ولذلك تحرك؟