توقيف الغنوشي: لقد نفد رصيدكم
قد يكون توقيف رئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي مرتبطا بتصريحات قوية أطلقها الاثنين خلال اجتماع لجبهة الخلاص ووصفها مسؤول رسمي بأنها “تحريضية”. لكن عملية التوقيف تأخذ أبعادا مختلفة تتعلق بعلاقة الرئيس قيس سعيد بالنهضة من جهة أولى، وبمدى تأثير هذه الخطوة على الحركة في المدى المنظور من جهة ثانية.
لم يكن مفاجئا توقيف الغنوشي، فقد سبق أن تم بحثه في جلسات مختلفة وبتهم أكبر بكثير من تهمة التحريض. وهو ما يعني أن الاعتقال كان سيحصل قبل الآن وفي أكثر من مرة، ولكن تأجل لاعتبارات تبدو مرتبطة بحسابات دقيقة داخل السلطة تتعلق بتوقيت الاعتقال وتشابكاته الداخلية والخارجية.
كان مبرر التوقيف موجودا دائما خاصة أن رئيس حركة النهضة سبق أن وجهت له تهم على صلة بقضايا الجهاز السري للحركة وبقضايا التسفير والتمويل الخارجي. وبقيت هذه الاتهامات ضمن أوراق الصراع السياسي في البلاد حتى من قبل وصول قيس سعيد إلى الحكم. وفيما يقول رافعو هذه القضايا إن لديهم أدلة قاطعة، كانت النهضة تبرئ نفسها باستمرار وتقول إن التهم تفتقد لأي أدلة.
لماذا التوقيف الآن وبتهمة تبدو في صياغتها سياسية وليست مرتبطة بقضايا الإرهاب التي تم استجوابه فيها سابقا.
القصة وما فيها أن السلطة كانت تنتظر مبررا مباشرا لتوقيف الغنوشي، خاصة أن الرجل لم يدل بأي تصريحات تصعيدية منذ بدء الاعتقالات التي طالت قيادات من الحركة، من بينهم علي العريض ونورالدين البحيري وحبيب اللوز، وكلهم قيادات تاريخية ومن الصف الأول.
ويبدو أن سكوت رئيس حركة النهضة كان مقصودا ويهدف إلى عدم استفزاز السلطة وهو يعرف أن الرئيس سعيد لا يميل إلى الحسابات في تحديد قراره.
وحين قطع الغنوشي مرحلة الصمت وأطلق تصريحات فهمت السلطة فيها “تحريضا على الحرب الأهلية”، تم الإذن بالتوقيف العاجل كما سبق أن تم التعامل مع من سبقوه. ليس مهما آليات التنفيذ، المهم أن الغنوشي أعطى للسلطة المبررات التي كانت تبحث عنها لاعتقاله في الوقت الحالي.
وكان الغنوشي قال في كلمة خلال اجتماع لجبهة الخلاص “الذين احتفلوا بالانقلاب هم استئصاليون وإرهابيون وهم دعاة حرب أهلية”، في إشارة إلى مساندي الرئيس سعيد، وهو توصيف قاس خاصة أن الآلاف من الناس قد ساندوا ومازالوا يساندون قرارات قيس سعيد.
أثبتت السلطة بتوقيف الغنوشي أنها لم تكن تحسب حسابا خاصا لتاريخه ولا لرمزيته ولا لعلاقاته الخارجية كما يشيع أنصاره عادة. ولم تكن تتهيب في تأجيل توقيفه أي عنصر سوى عنصر الوقت وعامل الدليل الذي يعطي مبررا قانونيا لأي خطوة تخطوها تجاهه.
وعلى العكس، فقد أرادت السلطة أن تظهر من وراء توقيف الغنوشي أنها قوية، وأن لا أحد أكبر من القانون، وأنها لا تحسب حساب الخارج كما كان يراهن المعارضون على ذلك.
وهذا واضح من البداية، ومنذ اليوم الأول لإجراءات 25 يوليو 2021 حينما تحرك الإسلاميون للضغط عبر وسائل إعلام عربية وأجنبية لتصوير ما قام به قيس سعيد بالانقلاب واستثمار صورة الدبابة التي تقف أمام مدخل البرلمان على أنها رسالة رمزية تشي بأن قيس سعيد سيتخلى عن التجربة الديمقراطية في البلاد ويبدأ حكما فرديا، وأن الغنوشي هو الرمز الممثل لتلك الديمقراطية.
لا العالم فهم الرسالة التي راهن عليها الغنوشي وأنصاره، ولا قيس سعيد أبدى ليونة أو تخوفا من الحملة الإعلامية الخارجية.
والسبب بسيط، هو أن الديمقراطية التي دافع عنها الغنوشي كانت أقرب إلى الفوضى، ولم يكن البرلمان الذي ترأسه الغنوشي سوى فضاء عمومي يتم التشريع فيه لصراع الديكة الذي استفز التونسيين، خاصة أنه كان يُنقل بشكل مباشر على شاشات التلفزيون الرسمي، وجعلهم يتمنون أن يتحرك قيس سعيد لإيقاف هذه الصورة التي تسيء لبلادهم خارجيا، وفي نفس الوقت ترهن مستقبلها بيد مجموعات سياسية تعيش في الماضي وتعمل على تصفية حسابات قديمة.
خسر الغنوشي المعركة الأخلاقية حول الديمقراطية من لحظة فشله في إدارة البرلمان، فيما كسب قيس سعيد رهانه على الإجراءات التي اتخذها بالرغم من الصعوبات التي اعترضته.
كما أن الرهان على ضغوط الخارج يخفي إحساسا بالضعف والعجز ليس بمقياس القوة والعتاد الذي تتفوق فيه الدولة/ الشرعية بالمطلق، ولكن بمقياس الفكرة والبرنامج والعمق الشعبي.
وأثبتت التدخلات الخارجية لاحقا أن قيس سعيد كان أكثر ثقة بنفسه وبشعبيته وبفكرته أكثر من رهان الغنوشي على دور ما لخارج كان يجري الاتصالات والزيارات للحفاظ على مصالحه ليس أكثر، ولم تكن الصياغات الفضفاضة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان سوى غطاء أو “ماعون صنعة” لتأمين المصالح في بلد مهم إستراتيجيا.
والدليل على ذلك أن الحراك الأخير حول تونس كان محوره تمكين صندوق النقد الدولي تونس من شريحة أولى من القرض قبل الإصلاحات الاقتصادية أو بعدها.
وبالتوازي مع فشل ورقة الخارج، التي كانت هي الورقة الأولى في رهانات حركة النهضة، فشلت أيضا ورقة تحريك الشارع التونسي للضغط على قيس سعيد للعودة إلى ما قبل 25 يوليو 2021، وقد جرب الإسلاميون التحرك بمفردهم ومع المعارضة القريبة منهم، لكن ذلك لم يلق أي تجاوب من جانب أغلبية التونسيين.
صحيح أن الكثيرين منهم يدعمون قيس سعيد ولا يمكن أن يتظاهروا ضده. لكن الصحيح أيضا أن جزءا كبيرا من الشارع ناقم على تجربة الحكم التي خاضتها حركة النهضة تحت غطاء الترويكا أو غطاء التوافق، أي سواء أكانت في قيادة الحكم أو شريكا فيه.
لم تكن تلك النقمة لاعتبارات سياسية، ولكنها ناجمة بالأساس عن الفشل الاقتصادي للسنوات العشر الماضية التي كان الغنوشي طرفا حاكما فيها. ولذلك لم يتعاطف معه الناس وقت التظاهرات والاحتجاجات التي دعا إليها، وأيضا الآن حيث اكتفى الناس بمتابعة خبر توقيفه وكأنه في بلاد أخرى بعيدة، دون أن نغفل عن حالة من الاستبشار واسعة على مواقع التواصل لدى خصومه، وخاصة لدى نخب تونسية تحمله مسؤولية الأزمة التي وصلت إليها البلاد.
بقطع النظر إن كان توقيف الغنوشي ظرفيا، أو ستتم إحالته وفق اتهامات واضحة على القضاء، فإن ردود الفعل السابقة تظهر أن حركة النهضة لم تنجح خلال سنوات الحكم التي قادت فيها البلاد في تغيير صورتها لدى الناس، وهي صورة قائمة على الحذر من البداية، ثم على الخوف في فترة مواجهات مع بورقيبة وبن علي لجأت فيها عناصر من الحركة إلى العنف، لتصل الآن إلى مرحلة يأس الشارع من دورها في أي تغيير إيجابي خادم له.
لم تفض التغييرات على الشكل إلى تقريب الغنوشي من الناس، كما لم تنجح مقولات تحديث حركة النهضة في نظر الناس إلى نتيجة، خاصة الرهان على “الإسلام الديمقراطي” أو التخلي عن فكرة تطبيق الشريعة، والإيحاء بأن النهضة أقرب إلى المدرسة المقاصدية التي لا تأخذ بالأحكام ولكن بمقاصد الدين، وهو تأويل فضفاض كان هدفه طمأنة فئات “علمانية” تتخوف من انقلاب النهضة على قيم المجتمع التونسي.
وبالنتيجة، فإن توقيف الغنوشي يظهر إلى حد الآن أن الرجل قد استنفد رمزيته كمعارض قديم، وكرئيس لبرلمان منحل، وكرئيس لحركة ترفع شعار خدمة الناس. السنوات العشر الماضية أكلت رصيد الغنوشي لدى الناس وجعلت عملية توقيفه عملية روتينية قد لا تثير أكثر من بيانات الاستنكار وبعض تغريدات التضامن الخارجي.
لقد نفد رصيد الغنوشي في مواجهة رئيس لا يزال رصيده ممتلئا من ثقة الناس.