تونس.. استفتاء من أجل المستقبل
عبد الحميد توفيق
مخاض شعبي وسياسي وحزبي مرت به تونس عبر سنتين ونصف السنة من رئاسة قيس سعيد للبلاد، قد يكون الأكثر صعوبة بسبب تقلبات المرحلة الانتقالية على وقع تحديات مختلفة المنابع ومتعددة التوجهات.
تونس على موعد مع استفتاء الخامس والعشرين من يوليو على الدستور الجديد المقترح لشكل ووظيفة الدولة والسلطة معًا. فرصة تأسيسٍ لجمهورية بنظام رئاسي لا لبس فيه وفق دستور جديد اجترحته نخبة من أهل القانون وخبراء علومه الدستورية بإدارة وإشراف مباشرين من قبل الرئيس قيس سعيد -أستاذ القانون الدستوري لعقود من الزمن.. جمهورية منشودة ترنو إلى تحقيقها أغلبيةٌ سياسية وحزبية وشعبية ونخبوية عملت وتعمل على ترسيخها عبر الاستفتاء، وتتحفظ على عدد من موادها الدستورية المقترحة بعض التيارات والقوى، انطلاقا من رؤى متعارضة ومتباينة وغير موحدة، وهي بدورها تسعى لحشد أتباعها.
تمرين جدّي على ممارسة الناس حقها في الاقتراع قبولا أو رفضًا. بكل المعايير تبدو تونس على أعتاب تحول لن تقتصر ارتداداته على شكل ووظائف الدولة، التي ستنبثق من الاستفتاء على الدستور الجديد، ولا على طبيعة النظام ووظائف مؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي حددها الدستور المقترح.. إنه تحوُّل سيطال ويمس الإنسان التونسي بصفته مواطنًا تحكم علاقته بالسلطات جميعها حقوقٌ وواجبات تحددها وتصونها وتضمنها نصوص دستورية وقانونية.
الاضطراب السياسي، الذي عاشته البلاد خلال العقد الأخير من الزمن، لم يكن ملهِمًا للقوى أو للشخصيات التي وصلت إلى مراكز السلطة والقرار لابتكار سبل التغلب على إفرازاته السلبية وتحويلها إلى فرص واعدة للدولة وللمجتمع، يضاف إلى ذلك وقوع المجتمع التونسي بمختلف شرائحه تحت سطوة دعاية مزيفة من جانب حركة “النهضة” الإخوانية، عندما كانت تحشد لأجندتها بهدف الوصول إلى السلطة، وعندما تسلمت السلطة ومارستها، في كلتا الحالتين، أحدثت وأسهمت في تأجيج ظاهرة الاستقطاب المجتمعي، مما أدى إلى بروز انقسامات فعلية على مستوى المجتمع العام وعلى مستوى القوى السياسية والحزبية، لكن سرعان ما انكشفت حقيقة أهدافها الرامية إلى إثارة النعرات بين القوى والكتل المنافسة لها، كي تسهل أمامها الهيمنة على البلاد.
وجد الرئيس قيس سعيد، بعد معايشته واقع البلاد والمجتمع وهو القادم إلى رأس السلطة متسلحا بأكثر من 72% من أصوات الناخبين التونسيين، ومتحلّلا من الانتماء الحزبي الضيق، أن الأعاصير، التي تهب من هذا الجانب أو ذاك -خاصة من الداخل- تتطلب إرادة واعية تتجاوز الأغراض الدعائية لأي سلطة أو تيار أو شخصية، وتغوص في عمق المشكلات، التي تعتري أسس البناء القديمة للدولة، وتثقل كاهلها وتقلص فرص إعادة إقلاعها، ولعل في مجمل إجراءاته الدستورية، التي وسمت عهده القصير حتى الآن بدءا من الإقدام على مواجهة انحراف حركة “النهضة” حين مارست سلطتها، مرورًا باقتحام دهاليز ملفاتها وفسادها السلطوي والوطني، وصولا إلى وضع يده على بعض مؤسسات القضاء والقضاة الذين كانوا يتسترون على انحرافات “النهضة”، كل ذلك يشي بأن خِيار تأسيس جمهورية تونس الجديدة على قاعدة دستورية محكمة كان السبيل الأكثر إلحاحا للنهوض وطيّ صفحة الماضي.
التجديد والتحديث خيار ناجم عن إرادة واعية وقراءات سياسية تلحظ مجمل التحولات المجتمعية والتوجهات المستجدة، التي تفرضها، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع محاكاة جميع الشرائح والقوى السياسية والحزبية، وليس المطلوب من أي حركة تغيير وتحديث التعبير عن مصالح بعض التيارات، ولذلك فهي تنطلق في طرح خياراتها وتعميمها من مراعاة مصالح الدولة والأغلبية الشعبية، التي تتقاطع مفاهيمها ومصالحها وغاياتها مع المصالح العليا للبلاد.
التونسيون على اختلاف مشاربهم يترقبون مجريات الاستفتاء، كما يترقبون ما سيفصح عنه من نتائج.. معركة لن تكون نهايتها محسومةً بما ستفرزه صناديق الاستفتاء فحسب.. أيّاً كانت خلاصاتها فإنها خطوة على طريق طويل يتطلب المثابرة والعزم للانتقال من واقع مضطرب إلى حالة استقرار سياسي واجتماعي تسمح بتشييد بناء أكثر رسوخًا على المستويات كافة.
التحدي الحقيقي الذي يواجه الرئيس قيس سعيد والشعب التونسي سيكون في مرحلة ما بعد الخامس والعشرين من يوليو الجاري حين تتضح معالم الغد واتجاهات مساره.
اشتعلت تونس بأولى شرارات ما يعرف بـ”الربيع العربي” واكتوت ببعض جمْره. ليس بعيدًا عنها ولا غريبا أن تتحول لتكون أولى علامات الربيع الحقيقي لشعبها ولشعوب المنطقة.