تونس: البورقيبية في أحدث نسخها
محمد قواص
بقيت تونس منذ الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية بعد إلغاء الملكية في عام 1957، متميزة في نظامها السياسي.
ذهب بورقيبة بعيدا في مواقفه السياسية الكبرى، سواء تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والتي جاءت خارجة عن سياق المقبول والمعهود، أو تلك المتعلقة في دور تونس الإقليمي والدولي، كما في انتهاج البلد في عهده نظاما اجتماعيا علمانيا سنّ تشريعات تتعلق بالمرأة والأسرة والعلاقة بالدين منفصلة عن كل السائد في بلدان المنطقة.
أسست البورقيبية لنظام حكم يقوده الزعيم الأوحد وجد امتدادا رحبا له في عهد زين العابدين بن علي، وفيما قدمت تونس في عهد بورقيبة نموذجا متميزا يعتبره البعض حداثيا على الرغم من الطابع الاستبدادي في الحكم والسياسة، إلا أن النظام السياسي في عهد بن علي طوّر آليات الإدارة والسلطة بدون المغامرة في أي مسار جيوستراتيجي مرتبط بمسائل السياسة الخارجية و”القضايا” الإقليمية، مستغنيا عن توسّل معنى أيديولوجي لطبيعته.
والحال أن لحظة سقوط نظام بن علي في بداية 2011 تمثّل نقطة أنهت مبرر بقاء نظام لا يجهد لتبرير معنى بقاء ووجود داخل المشهد الدولي العام، ولم يعد هيكله المحلي قادرا على إقناع العامة وأصحاب المصالح وعواصم النفوذ بضرورات ديمومته.
وإذا ما تواكبت مرحلة بن علي (1987-2011) مع استقالة الإيديولوجيا من الخطاب الدولي العام، فإن سقوط تلك الحقبة استند على فكرة الحرية التي فسّرت اندثار الحرب الباردة، وعلى فكرة الدين التي لم يكلّ الإسلام السياسي من حملها أداة وعدّة للعبور إلى السلطة.
لكن البورقيبية أسست لثقافة اجتماعية ما زالت تمثّل حتى الآن العمود الفقري لهوية تونس الحديثة.
نجحت تلك الثقافة في أن تقف ندّا أمام المدّ المتشدد الذي اجتاح تونس بعد “ثورة الياسمين”، بحيث أن تياراته السياسية أخذت بيأس علما بالخصوصية التونسية واضطرت، من خلال واجهة “حركة النهضة” خصوصا، أن تقرّ بعقم الذهاب بعيدا في أسلمة الدولة والمجتمع، لا بل إن أبجديات الحكم والسلطة أسقطت عن الإسلاموية رداءها الأخلاقي لحساب قواعد الحكم التي سنّها نيكولا ماكيافيلي دستورا لكيفية حكم “أميره” للعباد والتعامل مع ديناميات المصالح والنفوذ.
تقاطعت مصالح الإسلام السياسي مع مصالح لوبيات الأعمال وأصحاب البزنس، وغاب الفاصل بين ماض عفن وحاضر واعد، وخاضت “النهضة” دهاليز الحكم بما تيسّر من وسائل وأدوات لطالما كانت تعتبرها رجسا من عمل الشيطان، التقى مدّعو الطهرانية مع رموز الفساد في مسار واحد لحكم البلد، ولئن مشى التونسيون في مسار “ثورتهم” استحقاقا بعد آخر معوّلين على زمن من الحرية والبحبوحة والازدهار بديلا عن مرحلة الديكتاتورية والركود، فإن تلك “الخلطة” الحديثة في حكم البلد فشلت في إيهام التونسيين بالهناء والدفع بهم للحمد بجنات “الياسمين”.
يأتي قيس سعيد نتاج ضيق شعبي عام من أولاد “الثورة”، هو “ابن الدولة” سليل الإدارة التي تقوم عليها “الدولة العميقة”، راقب الرجل بقنوط ذلك التدحرج الذي أحدثته تجربة الأحزاب خلال العقد الماضي ونال من مستوى وحدة البلاد ومنعتها.
استنتج عجز المنظومة السياسية الوليدة عن تطوير خطابها وتحديث أدواتها، كما أدرك عدم قدرة البلد على التواصل مع مفردات التحولات الإقليمية والدولية.
وإذا ما عايش سعيّد تونس البورقيبية، فإنه من تلك الفلسفة ينهل خلاص البلد على يد “منقذ” يخطط ويقرر وينفّذ حين لا تقوى المنظومات السياسة والاقتصادية والاجتماعية والنقابية على فكّ رموز الانسداد والخروج من دائرة المراوحة المغلقة.
يروي العارفون للرجل أنه خاض حملة انتخابية رئاسية مبكرة بصمت وهدوء، متنقلا بين مناطق تونس مقيما في بيوت تونسية، مستمعا إلى “كلام التوانسة”.
لم يكن من الشخصيات التي كان يجد فيها ائتلاف الحاكمين خطرا أو منافسة، حتى أن “حركة النهضة” وجدت فيه، بعد ما سجله من اختراق مفاجئ (فاز بنسبة تفوق 76 بالمئة)، رجلها الأمثل في مقارعة من رأتهم نقيضا لها في قصر قرطاج.
كذلك خاطب قيس سعيّد الناس مباشرة شأنه في ذلك شأن القائد في علاقته مع الرعية، واستند الرئيس التونسي على مواهبه وطباعه وقيمه وخطابه، وعلى صلابة وحزم وحسم والتقدم دوما إلى الإمام، حتى لو كان في هذا التقدم هروبا.
يعتمد “ابن الدولة” على الإدارة وأجهزة تسيير البلد في الأمن والدفاع والمال، يقرأ الرجل جيدا خرائط المنطقة ويجيد إدراك تحولات العواصم الكبرى وحركيتها.
وفيما يستغرق الخصوم في جدل الشرعية والدستور والقانون والديمقراطية والحريات، وهو جدل مشروع، يكمل سعيّد مشواره دون معاندة تُذكر حتى من قبل العواصم القريبة والبعيدة.
دستور تونس المقترح يطيح بدستور 2014 ويوفّر لموقع الرئاسة سلطة عليا، تماما كما في عهد بن علي وقبله عهد بورقيبة، لكن سعيّد، وهو الأستاذ في القانون الدستوري، يرد عنه “التهمة”، ويطمئن تونس أنه قد “ولى عهد الاستبداد”.
وحول هذا “الخطر” تدور الحملة السياسية ضد “دستور سعيّد” (طالما يتردد أنه مخالف للنصّ الذي اقترحته اللجنة المكلفة بصياغة دستور) وتدعو إلى مقاطعة الاستفتاء في 25 يوليو، لكن تلك الحملة تتقدم، وربما بدون قصد، وكأنها من عدّة الشغل التي ستوفّر للحدث جلبته الديمقراطية.
منطقي أن تعارض “أحزاب السلطة” (الإسلامية واليسارية والدستورية) التي أطاحت بها قرارات ما يسميه الرئيس مسار “25 يوليو” (2021) مآلات سعّيد الدستورية، بيد أن الرئيس التونسي ذاهب إلى الحدود القصوى في مشواره الذي يراه “إصلاحيا”، متأمّلا بدون مفاجأة وهن تلك الأحزاب وركاكة موقفها ونفور الرأي العام منها.
فهم “الاتحاد العام للشغل” هذا الواقع، راح يحذّر من اختلال في الصلاحيات لصالح الرئاسة على حساب المؤسسات الدستورية الأخرى، لكنه، ولإدراكه لمزاج التونسيين ترك حرية الخيار للنقابيين في الاستفتاء، وهنا تكمن آلية عمل سعيّد بالاحتكام للناس فقط وتجاوز ما قام من هياكل وما اصطنُع منها في العقد الأخير.