تونس: الدولة ليست مجرد مطفئ حرائق
هل أن من مهام الدولة إطفاء الحرائق وإخماد الفتن، والتفرغ إلى ملاحقة المتسببين في إشعالها، وهل صارت وظيفتها، فعلا، برسم ما يحدده لها خصومها من مشعلي تلك الحرائق؟
لعل من نكد الدنيا على أي حاكم أن يمسي مجرد مصوّب للأخطاء بدل أن يمضي مبادرا في اجتراح الحلول وابتداع شتى طرق التنمية والتطوير.
ليس إنجازا أن تتباهى حكومة بأنها تقاوم الفساد وتحاول وقف نزيف هدر الطاقات ونهب البلاد، وإنما تزيد على ذلك بالتفرغ للإضافة وابتكار الحلول. لكن الدولة التونسية ابتليت منذ أن تخلصت من حكم حركة النهضة عام 2022، بترقيع ما يجب ترقيعه، واسترجاع التوازن بدل السقوط.
أمر مؤسف حقا، أن تُهدر الطاقات في تصحيح المسارات وتصليحها بدل تسريعها وتطويرها، ذلك أن ركب التنمية لا يحتمل التأجيل أو الانتظار وسط عصر صار يقاس بأعشار الثانية في ظل تحديات تأتي من كل حدب وصوب.
هل قدر التونسيين أن يصفقوا ويهللوا في كل لحظة تقبض فيها السلطات على كل سارق وتحاكم فيها فاسدا ليمضوا الوقت في تهنئة أنفسهم بالانتصار على الفساد؟
لماذا الفساد أصلا؟ ولماذا صار الناس يتبادلون التهاني وعبارات الانشراح عند انتهاء طوابير الانتظار أمام المخابز ومتاجر المواد التموينية، والوعود بانفراج الأمور وتيسيرها مع العودة المدرسية؟
متى كان التونسيون يشكرون حكوماتهم على توفير ما يلزمهم من مواد أساسية كالماء والكهرباء والوقود والمواد الغذائية؟ ومتى عرفوا الطوابير أصلا، إلا أمام المسارح وقاعات السينما ومعارض الكتب، وكل ما يسد رمق الحياة الثقافية والترفيهية؟
كان يعرف جيران تونس في غربها الجزائري وشرقها الليبي، وعلى الرغم من ثراء بلادهم، أن هذه البلاد عنوان للترف ورغد العيش وبهجة الحياة، فكيف تحولت، وفي لمح عشرية سوداء قاتمة، إلى أرض لا تستطاب فيها الحياة، ويهرع فيها الجميع إلى المغادرة نحو الضفة الشمالية عامة ونخبا، هجرة نظامية وأخرى على متن المراكب المتهالكة.
“يداك أوكتا وفوك نفخ”، يقول المثل العربي القديم، ومفاده أن التونسيين يتحملون مسؤولية ما آلت إليه الأمور في بلادهم على الرغم من نوائب العصر المتمثلة في الجوائح الوبائية والتضخمات المالية والأزمات المالية والاحتباسات الحرارية والصراعات الحربية.
كل ما في الأمر أن التونسيين قد “غامروا” عام 2011 بما قد تحمد أو لا تحمد عقباه، وسلموا أمرهم إلى ما لا يعرفونه من “ثورة” و”ديمقراطية ناشئة” و”إسلام سياسي”.. وهلمّ جرا مما كل ما يوضع بين معقفين من مفاهيم مستجدة على مجتمع يطمح إلى كل ما هو جديد، وإن كلفه ذلك ما كلفه.
النتيجة كانت كارثية وبكل المقاييس، والسبب ـ ببساطة شديدة ـ هو أن التونسيين لم يجربوا من قبل، حكم الدكتاتوريات العسكرية والأيديولوجية والطائفية الدينية، أسوة بالكثير من أشقائهم في مشارق البلاد العربية ومغاربها.
كل ما في الأمر أن الزعيم الحبيب بورقيبة، مؤسس الدولة الوطنية الحديثة، كان مدنيا نرجسيا طموحا، ومن جاء بعده كان وطنيا بأخطاء كثيرة وكاريزما أقل، أما من ادعى تقديم البديل بعد 2011 فكان الكارثة التي انخدع لها مغفلون كثيرون.
الآن، وقد ثاب للجميع رشده، واقتنع الكثير من الناس أن “من يجرّب المجرّب عقله مخرّب” كما يقول عرب المشرق، فإن جميع الاحتمالات السيئة قد عاشها التونسيون في ظرف عشر سنوات: فساد، قمع، تطرف، إرهاب، خصاصة، فقر، إلخ إلخ..
ماذا بعد؟ لن ينفع القول إن الرئيس التونسي قيس سعيد، قد جاء بمثابة المخلّص، وما شابه من تلك المقولات التي جاءت على شاكلة مصر والجزائر وسوريا وليبيا في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي. فالتونسيون تحرروا من حكم الفرد مرة واحدة، وإلى الأبد، لكن المؤمن لا يلدغ من الجحر الواحد مرتين.. فما بالك مع ما يقارب الثلاث مرات أو الثلاث جمهوريات؟
كل ما في الأمر أن تونس لديها الآن ما تفعله غير البكاء على الحليب المسفوح أو كفكفة الدموع أو القيام بمهام رجل الإطفاء..
تونس، وقد بدأت بالتعافي الآن، والامتثال للشفاء بفضل رباطة جأش قل مثيلها، وفي تجربة عربية رائدة بعد أن راهن الكثير على فشلها، فإنها مدعوة ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى التفرغ للنسج على منوال تنموي يجانب الشعارات والصرخات السياسية والتحريضية.
لا مجال للالتفاتة إلى الوراء إلا لأخذ العبرة، ولا لثقافة التشفي والعودة إلى شعار “موتوا بغيظكم” الذي رفعه الإسلاميون يوم أخذتهم العزة بالإثم، لأن سلوك الحقد لن يبني أوطانا، كما أن الحزم وعدم التسامح مع الخونة والفاسدين أمر لا بديل عنه.