تونس: الديمقراطية ليست صك غفران تمنحه الأحزاب
علي قاسم
مرة أخرى ينفضّ التونسيون عن الأحزاب ومرة أخرى يقدمون الدعم لأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد ويصوتون بنسبة 94 في المئة لصالح دستور البلاد الجديد، وكانوا قد منحوه انتصارا باهرا وأمنوه على مصائرهم في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2019.
حينها فسر المراقبون هزيمة 25 مرشحا دخلوا السباق الرئاسي إلى جانبه، بينهم رؤساء حكومات ووزراء ورئيس دولة سابق، بردة فعل أراد من خلالها التونسيون معاقبة حكومات متعاقبة فشلت في إيجاد حلول لوضع اقتصادي متأزم أفرز احتقانا اجتماعيا تزايدت حدته بعد ثمانية أعوام من الثورة.
في الخامس عشر من أكتوبر 2019 تابعت مناظرة تلفزيونية جرت بين سعيد وبين منافسه الأول رجل الأعمال نبيل القروي، كانت المناظرة عنصر حسم في اختيار الناخب التونسي أستاذ القانون الدستوري الذي تفوق بشكل واضح على نظيره في السجال، مركزا على الجوانب التي تهم صلاحياته.
بينما ركز القروي، المدجج بمؤسسة إعلامية، حديثه على مكافحة الفقر في المناطق الداخلية والمهمشة، ولم يبخل على التونسيين بألف وعد ووعد، من ضمنها تطوير الاستثمار الرقمي في البلاد، ليخرج من المناظرة مهزوما. وهذا ما أثبتته الوقائع بعد فشله في كسب ثقة الناخبين.
لم يكترث سعيد، الذي يرى فيه أنصاره رجلا متواضعا يتحلى بالمبادئ، بالبذخ الذي أبداه منافسه في تمويل حملته الانتخابية، ولم ينفق أموالا تذكر، مكتفيا بملصق بسيط يحمل شعار “الشعب يريد”، ومشددا على “كره الوعود الزائفة”، معتبرا أن “الشعب هو من يتصور الأفكار وهو من يطبقها”.
كانت الوعود الانتخابية القشة التي أنهت حلم رجل الأعمال القروي، بعد سنوات قضاها في زيارات إلى المناطق الداخلية يوزع مساعدات غذائية للمحتاجين والفقراء وأبناء السبيل، واعدا الطبقات الاجتماعية المهمشة بإيجاد حل لجميع مشاكلها.
التونسيون شعب عملي حاد الذكاء. ينخدع لك، ولكنك لن تستطيع أن تخدعه. وكان التونسيون، بجميع فئاتهم، يعلمون أن وعود القروي لا يمكن أن تتحقق في برلمان مشتت يصعب في ظله كسب تأييد الغالبية، ودستور لا يمنح الرئيس من صلاحيات سوى ثلاثة ملفات هي الخارجية والأمن والدفاع.
إن كان هذا الأمر غاب عن رجل الأعمال الطامح لدخول قصر قرطاج، فهو لم يغب عن التونسيين، الذين انخدعوا للقروي ولكنهم لم يخدعوا به. أدرك الناخب التونسي منذ اللحظة الأولى أن كلام الانتخابات الصادر عن القروي سيمحوه النهار، ولا حاجة لوجود الماء لتكذيب الغطاس. في ظل هذه الفوضى الجميع غارق لا محالة.
والتونسيون يعلمون بالفطرة أن النقود لا تنبت على الشجر. وخير لهم ألف مرة أن تعلمهم فنون الصيد من أن تدعوهم لموائد عامرة بالسمك.
وعد واحد قدمه سعيد للتونسيين وعمل جاهدا على تحقيقه، هو نقل السلطة الفعلية للشعب.. ولتحقيق ذلك كان عليه أن يدعو لتغيير الدستور المليء بالثغرات.
لم يخف أستاذ القانون الدستوري منذ البداية رفضه مركزية السلطة، مفضلا توزيعها على الجهات، ومؤكدا أنه لا يمتلك برنامجا انتخابيا بالمعنى التقليدي، وأن مهمته لن تكون أبدا تسويق الأوهام والأحلام من قصر قرطاج.
الفترة التي أمضاها سعيد في القصر، على قصرها، مليئة بالأحداث. بعد ثلاثة أشهر، في العشرين من يناير 2020 تحديدا تعلن الصين عن انتشار مرض معد في البلاد. وفي الثالث والعشرين من يناير تتحدث عن إصابة 614 شخصا بفايروس عرف باسم كورونا، توفي منهم 17 شخصا. ومع انتشار الفايروس في العالم وارتفاع عدد ضحاياه، بدأت تتضح خطورة الوباء، وانتاب العالم القلق والخوف من توسع الانتشار، ومعه بدأت أزمة اقتصادية عالمية تتشكل.
وكأن هذا لا يكفي، لتأتي الحرب الروسية – الأوكرانية لتزيد من تكلفة استيراد الطاقة والمواد الغذائية والسلع. وفي نفس الوقت تعلن وكالة “فيتش” الدولية للتصنيف الائتماني عن تخفيض تصنيف تونس السيادي الأمر الذي يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي، وينبئ بالإفلاس.
وبعد سنوات من جمود اقتصادي، فرضته أزمة عام 2008، يواجه التونسيون اليوم أوقاتا عصيبة، تتراجع معها فرص العمل وتتدهور نوعية الخدمات العامة وترتفع الأسعار.
وبدلا من ممارسة الحكم وتحمّل المسؤولية والبحث عن حلول، تحوّلت الديمقراطية الناشئة في تونس إلى لعبة تتلهى بها الأحزاب؛ الجميع مسؤول، والجميع يتنصل من المسؤولية. وبدلا من العمل على تحقيق وعود الثورة دخلت الأحزاب في جدل عقيم حول من يحكم ومن ينفذ.
تفاصيل ما حدث، ومازال يحدث، وتداعيات ذلك على الاقتصاد معروفة.
ولأن الظروف الصعبة تحتاج لقرارات صعبة أيضا، وهو ما أدركه الشارع التونسي الذي رفض أن تتحول لعبة الديمقراطية الجديدة إلى صكوك غفران تصدرها الأحزاب وتهبها لمن تشاء، أيد التونسيون قرار الرئيس سعيد حل البرلمان، ليثبتوا بذلك أنهم أكثر وعيا من سياسيين محترفين واظبوا على الندب والبكاء على الحرية وحقوق الإنسان والترويج لمخاوف وهمية لا أساس لها.
في أكثر من مناسبة وجه التونسيون رسالة واضحة إلى السياسيين فحواها: شبعنا سياسة وشبعنا أيديولوجيا. ولكن الرسالة لم تصل إلى الأحزاب السياسية التي راحت تندب الديمقراطية. والسبب ببساطة أن السلعة الوحيدة التي حاولت تلك الأحزاب تسويقها خلال عشر سنوات هي الأيديولوجيا.
أوفى سعيد بوعده، وحل البرلمان، وها هو اليوم يكسب دعم التونسيين لدستور جديد اقترحه يضع حدا للتسيب والفوضى ويمنح الرئيس المنتخب سلطات تخوله تحمل مسؤولية قيادة البلد. ويا لها من مسؤولية.
الشعب التونسي أراد واختار أن يقول “نعم” للدستور. 94 في المئة من الناخبين الذين توجهوا لصناديق الاقتراع صوتوا بـ”نعم”، ولسان حالهم يقول: دكتاتور منحاز للشعب ويعمل لصالحه خير من ديمقراطي تصنعه الأحزاب ويعمل لصالحها.