تونس.. النهضة المذعورة
عبد الجليل معالي
منذ باحت الانتخابات الرئاسية التونسية في دورها الأول عن أسرارها، تعيش حركة النهضة الإسلامية حالة ذعر ملحوظة. نتائج الانتخابات الرئاسية جرت بما لا تشتهي سفن النهضة، وهي التي كانت تراهن على ذلك المفصل الانتخابي، لذاته ولتأثيره على الانتخابات التشريعية في آن، ولذلك راهنت على الاستحقاق الرئاسي بترشيح واحد من أبرز قياداتها، بمعنى التاريخ وبمعنى الانتماء.
ذعر النهضة متصل بتضافر دواع كثيرة، سياسية وقانونية وفكرية وتنظيمية داخلية، والذعر ممتد أيضا إلى طرح الأسئلة الحارقة عن مستقبل الحركة التي هيمنت على المشهد السياسي التونسي منذ انتخابات أكتوبر 2011.
ذعر النهضة متأت من تفجر بعض خلافاتها الداخلية، وخروجها إلى دائرة النقاش العلني، وهي التي كانت تحرص طيلة سنوات على تدبير خلافاتها وصونها من مغادرة المكاتب المغلقة. في تصدع البيت النهضوي وقائع كثيرة دالة على الاعتمال الذي يسود الحركة، غادر القيادي والوزير السابق حمادي الجبالي الحركة غاضبا، وقبله انشق رياض الشعيبي وأسس حزبا ضم المتبرمين من الحركة، ومؤخرا لم يتردد عبداللطيف المكي كما محمد بن سالم، في التعبير علنا عن الامتعاض من قيادة الحركة، وعلى رأسها الشيخ راشد الغنوشي، الذي طالما كان خارج دائرة الانتقاد العلني، ومؤخرا حبّر المدير السابق لمكتب الشيخ، زبير الشهودي، رسالة علنية طلب فيها من “الأستاذ راشد الغنوشي اعتزال السياسة وأن يلزم بيته ومحرابه”. هذا فضلا عن أسماء كثيرة غادرت الحركة وآثرت عدم التعبير العلني عن الامتعاض.
لكن حقيقة الذعر النهضوي من خسارة الانتخابات القادمة، وبالتالي الانزواء خارج دائرة الفعل السياسي، لا تقتصر دواعيها على ما يدور داخل البيت، بل تمتد أيضا إلى أن الحركة بصدد تفحص الأرقام التي أنتجتها الانتخابات، وتلك التي تفرج عنها استطلاعات الرأي، والتي تبين متضافرة، تراجع الحركة لصالح تيارات وأصوات وشخصيات أخرى، ولو أن بعضها ينهل من نفس النهل الإسلامي. هذه التيارات الجديدة التي تقضم باطراد من خزان الحركة الانتخابي، تعبر عن تداخل عجيب بين معاقبة الناخب التونسي لكل منظومة الحكم، حكما ومعارضة، وفي القلب منها حركة النهضة، وعن بحث الناخب نفسه عن خطاب سياسي جديد، يقطع مع الخطاب الذي ساد طيلة سنوات ما بعد الثورة. وهو الخطاب الذي كان يقوم على إطلاق الوعود ثم تبرير الفشل في تنفيذها بالبحث عن تعلات خارجية. في هذا التداخل وجدت النهضة نفسها خارج تطلعات الناخبين، أولا لكونها كانت في مقدمة منظومة الحكم، وثانيا لأنها أكثر حركة قدمت وعودا وشعارات من قبيل “الذين يخاوفون الله”.
وللذعر النهضوي دواع أخرى متصلة في العمق بحقيقة ما راج عن جهازها السري. والحقيقة أن إثارة مسألة الجهاز السري، لم تكن وليدة اللحظة الانتخابية الراهنة. كانت مسألة الجهاز السري ماثلة في الكتابات التاريخية التي اهتمت بالحركات الإخوانية في مصر أو في تونس أو في غيرها. لكن المسألة تحولت إلى مدار اهتمام قانوني وقضائي بعد اغتيالين كبيرين شهدتهما البلاد (شكري بلعيد في 6 فبراير 2013 ومحمد البراهمي في 25 يوليو). توصلت الجهات التي تبحث في حقيقة الاغتيالين (هيئة الدفاع أساسا) إلى أن الاغتيالين تما بصمت أو بتهاون أو بشراكة سياسية للحركة، والحديث كان في البداية متصلا بالمسؤولية السياسية، ومع تقدم البحث والاستقصاء (جدير بالإشارة إلى أن مواقع صحافية استقصائية كانت أشارت أيضا وبالتوازي لعمل هيئة الدفاع إلى وجود جهاز سري لحركة النهضة) تمت الإشارة بالإصبع إلى وجود اختراق نهضوي لمؤسسات الدولة وهو ما عبر عنه مباشرة بالجهاز السري. واظبت النهضة وأنصارها على إنكار “التهمة” وإرجاعها دائما إلى الحسابات السياسوية التي تنبع من رغبات استئصالية، أو إلى أطراف خارجية، على حد تعبير التبريرات النهضوية.
كان لبث قناة العربية شريطا وثائقيا حول الجهاز السري، وقع مؤلم على الحركة وأنصارها، الذين سارعوا إلى تحويل وجهة النقاش، من تفنيد مضمون الشريط إلى طرح أسئلة مرتابة عن التوقيت السياسي لبث الشريط والتزامن بين البث ومواعيد الانتخابات، وصولا إلى اتهام القناة نفسها بأنها تعبر عن وجهة نظر سياسية معادية للحركة وللإسلام السياسي، رغم أن الشريط تم إعداده من قبل فريق عمل تونسي (الفريق تضمن باحثا أصدر كتابا عن الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس منذ سنتين)، واقتصر دور القناة على بثه بعد أن اشترته من الجهة التونسية المنتجة. ورغم ذلك قررت النهضة مقاضاة قناة العربية إثر بثها مساء الجمعة الشريط الذي حمل عنوان “غرف سوداء.. عودة التنظيم السري لحركة النهضة”، الذي قدرت الحركة أن “الغاية منه تشويه حركة النهضة في وقت تعيش فيه تونس على وقع حملة انتخابية وهو يهدف إلى توجيه سلوك الناخبين وإرادتهم من أجل عدم التصويت لها”. التمعن في القرار النهضوي بالشروع في مقاضاة قناة العربية يذكر بأن ذلك أسلوب نهضوي معتاد في التعامل مع وسائل الإعلام التي تتجرأ على انتقاد أدائها وأسلوب حكمها، وهو أيضا دليل مضاف على تفشي الذعر والارتياب.
الذعر النهضوي الناتج عن تضافر العوامل السياسية مع الداخلية مع المسائل القانونية، هو ما جعل الحركة تحاول التسريع من نسق حضورها السياسي في الجهات، وهو ما دفع رئيس الحركة إلى النزول بنفسه للحملات الانتخابية (جدير مقارنة التركيز النهضوي على الانتخابات الرئاسية بما تقوم به الحركة مؤخرا في رهانها على التشريعيات). راشد الغنوشي أطلق تصريحات متعددة لا تعبر سوى عن وصول الذعر مداه الأقصى. الغنوشي قال في اجتماع أمام أنصاره الأحد الماضي “نحن الآن كتف بكتف مع حزب قلب تونس، ولا نزال غير متفوقين عليه، نحتاج إلى كل صوت ومن ورائه 100 صوت حتى نتفوق”.
لم تجرؤ حركة النهضة على القول إنها فشلت في حكم البلاد وفي تحويل وعودها إلى منجزات، لأنها تفتقد البرامج السياسية، ولم تعترف بأنها كانت تمارس نوعا من تأميم الأرباح وخوصصة الخسائر، ولم تركن إلى الاعتراف بأنها كانت تتكئ في خطابها على منطلقات دينية نجحت في استعمالها طيلة سنوات، لكنها أفلت وانقضى زمن صلوحيتها، ولذلك تبدو مرتبكة مما ستفرج عنه الانتخابات القادمة، وتبدو مذعورة من مستقبلها السياسي في ظل هبوب رياح محلية وإقليمية ودولية غير مواتية لأشرعها.