تونس بين متاهة السياسة وكارثة الاقتصاد
فاروق يوسف
ليست حركة النهضة في عجلة من أمرها. لم تعد المشكلة قائمة بين زعيمها راشد الغنوشي ورئيس مجلس النواب وبين قيس سعيّد رئيس الجمهورية التونسية.
لقد صنع الرجل المشكلة وتركها تكبر بين أيدي طرفي السلطة التنفيذية وهما رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. ولا أعتقد أن أحدا منهما سيقبل بحل وسطي أو يبتكر حلا لا يهين الطرف الثاني.
حين كلفه برئاسة الحكومة، لم يكن قيس سعيد يتوقع أنه اخترع خصما سيقف في مواجهته في اللحظة الحرجة.
فهشام المشيشي يسعى إلى أن يفرض وزراءه على الرئيس من غير أن يبحث معه بطريقة ودّية الأسباب التي تدعوه إلى رفض مثولهم أمامه لأداء اليمين الدستورية. وهو الإجراء الذي يؤهلهم لمباشرة وظائفهم التي كلّفوا بها.
لقد صار المشيشي هو الآخر يتصرف بطريقة يحاول من خلالها فرض رأيه على الرئيس عن بعد. متّبعا في ذلك نصائح الغنوشي الذي نزع عن الرئيس كل صلاحياته واقترح عليه أن يلتزم بحدود وظيفته الرمزية.
وإذا ما كان الغنوشي وحركته لا يشعران بالمسؤولية في مواجهة الكارثة الاقتصادية التي يمكن أن تضرب تونس في أي لحظة بعد تدهور أوضاعها الاقتصادية بل إنهما ربما عملا على التعجيل بوقوع تلك الكارثة لأسباب خاصة بهما، فإن على المشيشي وحكومته تقع مسؤولية العمل على منع وقوع تلك الكارثة بما يمليه عليهما واجب الخدمة العامة.
أما أن يدخل المشيشي طائعا إلى المتاهة التي اخترعها الغنوشي واضعا الشعب التونسي وأزماته القاتلة وراء ظهره، فإن ذلك يعني أن الرجل انتقل بسرعة قياسية إلى مرحلة الانفصال عن الواقع والقطيعة مع الشعب ولم يعد قادرا على إقناع أحد من التونسيين بأنه يصلح للاستمرار في وظيفته حتى وإن كان الغنوشي وحركته يقفان وراءه. وهو ما لا يمكن أن يستمر وقتا طويلا إذا ما تأكدت مسألة فشله في إقناع الرئيس سعيّد بالتراجع عن موقفه الرافض للوزراء المعلقين الأربعة.
ما لا يُفهم فعلا هو لماذا لم يتجه رئيس الحكومة إلى التفاهم مع رئيس الجمهورية وبالأخص أن شبهات الفساد كانت هي العثرة؟ هل كان من الضروري إحراج رئيس الدولة في موقفه في مثل تلك الحالة؟ مَن المستفيد من السعي في اتجاه إضعاف منصب رئيس الجمهورية؟
ما يحدث في تونس هو التعبير الأمثل عن هروب منظومة الحكم من مواجهة الأزمات التي يعاني منها الشعب التونسي وصار يضيق بها إلى درجة الانفجار. فمن المبكي والمضحك في الوقت نفسه أن يقضي رئيس الحكومة التونسي في زمن كورونا العصيب جلّ وقته في محاولة دحر رئيس الجمهورية وفرض وزراء تحوم حولهم شبهات الفساد عليه. أين الحكمة من وراء ذلك؟
فالشعب يفكر في مصير ثورته فيما طبقته الحاكمة تتسلى في نصب المكائد وحياكة المؤامرات. أليس من حق الشعب أن يخرج إلى الشوارع باحثا عن ثورته التي ضاعت بين الإنفاق والقصور ولم يعد لها أثر في السلوك الحكومي ولا في إنجازاتها ولا في مشاريعها ولا في بنيتها.
يحاول قيس سعيد أن يذكّر التونسيين بالثورة من جهة النزاهة والاستماتة في الدفاع عنها وهو ما يمكن أن يشكل ظاهرة استثنائية في زمن ما بعد الربيع العربي. فالرجل لم يكن في بداية ممارسته لمهمته منحازا لأحد ضد أحد حتى ظن الكثيرون أنه يميل إلى حركة النهضة.
أما وقد عاش شخصيا وقائع مؤلمة وفجائعية تشير إلى مسؤولية حركة النهضة عن كل ما شهدته البلاد من انهيارات على كل المستويات ومحاولتها الهيمنة على الدولة في كل مجال من مجالاتها من أجل جرّها إلى مشروعها الإخواني، فقد أعلن وبجرأة عن كل ما لمسه ورآه بصراحة وشفافية ولم يتوان عن تسمية الأشياء بأسمائها.
ولم يكن ذلك التصرف شجاعة منه بل هو تجسيد لشعور المواطنة الحقة حين تكون بمستوى المسؤولية، وليس الوقوف في وجه مكائد حركة النهضة بالأمر الهيّن.
فمَن لديه اطلاع على أسلوب عمل جماعات الإسلام السياسي لا بد أن يدرك أن الوقوف في وجهها ينطوي على الكثير من الأخطار. فما تخفيه هو أكبر بكثير مما تظهره. ولقد عملت حركة النهضة عبر السنوات العشر الماضية على تعطيل عمل الحكومات وجرّها إلى حلبة الصراع الداخلي بحيث غلبت مشكلة الحكم على كل مشكلات تونس وتقدمت عليها.
وما لم ينتبه المشيشي إلى الخطأ الذي يرتكبه بالابتعاد عن رئيس الجمهورية، فإن حكومته ستلتحق بالحكومات السابقة. لن تنجده حركة النهضة إذا ما أسقطه الشعب.