تونس بين مشروع الرئيس وقرار حلّ البرلمان
الحبيب الأسود
عندما قرر الرئيس التونسي قيس سعيد حلّ مجلس نواب الشعب، إنما كان ينفذ آلية الموت الرحيم في مواجهة المرض العضال الذي أصاب المؤسسة البرلمانية منذ أن تحولت إلى ساحة للمساومات والصراعات وتجاذب الصلاحيات والتستر على الفساد والفاسدين والدفاع عن الإرهاب والإرهابيين والتنكر للوعود المطروحة على الناخبين، وجعل منها تيار الإسلام السياسي وفي صدارته حركة النهضة حلبة لاستضعاف مؤسسة الرئاسة والسيطرة على مسارات العمل الحكومي والتغلغل في مفاصل الدولة وفتح جسور التواصل مع الخارج ضمن شبكة الدبلوماسية الموازية، ولاسيما بعد التأسيس لمقام بروتوكولي جديد في أعلى تراتبية الهرم الوظيفي بالدولة أطلق عليه اسم “رئاسة مجلس النواب” ليمارس من خلاله راشد الغنوشي منافسة غير دستورية مع الرئيس المنتخب للبلاد، وخاصة في إدارة العلاقات الخارجية والتدخل في المصالح والتوجهات الدبلوماسية.
لم يكن خافيا على أحد، أن الغنوشي كان يهدف من خلال “رئاسة مجلس النواب” إلى العمل على ترجيح الكفة السياسية والدبلوماسية للبلاد في اتجاه المحور الذي ينتمي إليه والمشروع الذي يدافع عنه، إذ أنه يبقى أولا وأخيرا مرتبطا بجماعة الإخوان انتماء وولاء وتحالفا ومصالح فئوية وحركية وعقائدية، وهذا الارتباط متواصل ودائم ومتين وعميق، وعندما تحدث الرئيس قيس سعيد عن الجلسة الافتراضية التي عقدها البرلمان يوم الثلاثين من مارس الماضي، ذكر أن هناك قناة تلفزيونية أجنبية كانت تبث أعمالها، وهو بذلك يقصد قناة “الجزيرة مباشر” القطرية التي تخصص مساحات مهمة من بثها اليومي للشأن التونسي من باب مباشرة وظيفتها السياسية في الترويج لما يعتبره الإخوان والقائمون عليها تمويلا وإدارة وتحريرا، انقلابا دستوريا نفذه الرئيس سعيد منذ الخامس والعشرين من يوليو 2021.
لم يكن الرئيس التونسي مناوئا للإسلام السياسي ولا معاديا للإخوان كما يعتقد البعض، ولكن محاولات الغنوشي التدخل في التوجهات الكبرى للدولة والتجاذب مع رئيسها المنتخب، وتردي الأوضاع المالية والاقتصادية والصحية والاجتماعية، وتعدي بعض النواب على مقام مؤسسة الرئاسة بشكل غير مسبوق، وظهور نذر انقسام مجتمعي وفتنة داخلية، دفعت في اتجاه التدابير الاستثنائية التي اتخذها سعيّد معتمدا على المادة 80 من الدستور التي تعطيه الحق في اتخاذها لمواجهة الخطر الداهم، وللتصدي لما يمكن أن يعطّل السير الطبيعي لمؤسسات الدولة.
كان ذلك القرار الحاسم سياسيا بالدرجة الأولى، وتم الاعتماد فيه فقط على روح الدستور وليس على حيثيات النص، إذ أن المادة المعتمدة لم تتعرض لحل الحكومة أو لتعليق صلاحيات البرلمان ومهامه، ولا للإجراءات اللاحقة ومنها حرمان النواب المنتخبين من الامتيازات الوظيفية والمكافئات المسندة إليهم، بمعنى رواتبهم الشهرية، وصولا إلى المرسوم 117 الصادر في الثاني والعشرين من سبتمبر الماضي والذي وضع جميع السلطات تقريبا في يد الرئيس، وعطّل العمل بأغلب أبواب الدستور، تمهيدا لخارطة الطريق التي تم الإعلان عنها في الرابع عشر من ديسمبر، وهي أثارت الكثير من الجدل باعتبارها تمهد لتطبيق مشروع سياسي خاص بالرئيس سعيد، وهو ما يسمى بالديمقراطية المباشرة التي باتت لها تنسيقيات تتحرك على نطاق واسع في مختلف مناطق البلاد تحاول التعريف بها والترويج لها على نطاق واسع.
قوبلت تدابير الخامس والعشرين من يوليو، بترحيب شعبي واسع، ومساندة من قبل قوى سياسية واجتماعية مهمة، وبمرور الوقت ارتفعت أصوات المساندين داعية إلى حل مجلس النواب نهائيا والتوجه نحو انتخابات مبكرة، والتمهيد بتنظيم حوار وطني لوضع أسس المرحلة القادمة، ولاسيما أن الجميع بات يؤيد تغيير النظام من ملامحه الهجينة الحالية إلى نظام رئاسي وينادي بإيجاد قانون جديد للانتخابات، لكن إصرار الرئيس على تنفيذ برنامجه الخاص، جعل الكثيرين من الموالين ينفضّون من حوله، ودفعت بآخرين إلى التشكيك في المستقبل وفي الخيارات المعتمدة ضمن سياقات وضع صعب تمرّ بها تونس على مختلف الأصعدة، وخاصة على إثر المراسيم التي اعتمدها سعيّد في العشرين من مارس الماضي دون أيّ مشاورات أو تنسيق مع القوى الفاعلة في المجتمع، والتي كانت تصب في إطار التبشير بمرحلة التنفيذ العملي للمشروع الخاص للرئيس.
تتضمن خارطة الطريق المعلنة من قبل الرئيس استفتاء شعبيا على تعديلات دستورية ينتظم في الخامس والعشرين من يوليو القادم، وانتخابات تشريعية في السابع عشر من ديسمبر، وجاء الإعلان عن حل البرلمان ليطرح السؤال عما إذا كانت هناك نية لانتخاب برلمان جديد وفق مواد الدستور ذات الصلة بالانتخابات المبكرة، لكن جميع المؤشرات تنفي ذلك، وتؤكد أن الرئيس متمسك بموعد الانتخابات في ديسمبر، وبمشروعه المتمثل في طبيعة النظام السياسي الذي يتطلع إليه والذي لن يتحقق إلا ببرلمان يوفّر له الأغلبية الموالية والتي ستذهب إلى قائمات التنسيقيات المتحركة في اتجاهات عدة بمختلف المناطق ولكن ضمن سياق الديمقراطية القاعدية المباشرة.
سيكون من الصعب على تونس أن تبقى دون برلمان، وهي اليوم تبدو كدولة على حافة الإفلاس، وتتعرض إلى حملات واسعة في الخارج، تتزعمها بالأساس حركة الإخوان ذات النفوذ الإعلامي الواسع في الغرب ولاسيما في لندن وبرلين وواشنطن، والتي تحظى بدعم غير محدود من الدوحة، وتجد روافد مهمة لأطروحاتها في يساريين وليبراليين يدورون في فلكها، كما أن تونس اليوم ليست تونس ما قبل 2011 عندما كانت الدولة تمسك بجميع آليات السلطة، فما نراه حاليا يكاد يصل إلى مرتبة التمرد من قبل الكثير من أصحاب المصالح المرتبطة بالخارج وبالسفارات ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والأبحاث وغيرها، وممن يتدافعون لتعمد استفزاز النظام، وحتى للدفع به إلى ملاحقتهم أمنيا وقضائيا، فخلال السنوات الماضية، أصبحت فكرة التمرد على الدولة مرغوبة من قبل الباحثين عن جزء من الغنيمة. قد ينتبه الرئيس قيس سعيد إلى أن ما يتعرض له اليوم، حتى وهو يتبنى خيارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وفق تصريحاته المتواترة، هو ذاته ما تعرض له الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي اللذين يُحاول هؤلاء دائما المساس بهما سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بل إن أغلب من كانوا منخرطين في الحرب ضد النظام قبل 2011 هم أنفسهم من يواجهونه اليوم من الغنوشي إلى حمة الهمامي إلى أحمد نجيب الشابي والقائمة تطول.
من حق الرئيس سعيد أن يطمح إلى تحقيق مشروعه الشخصي والخاص، ولكن بعد أن تخرج البلاد من الوضع الاستثنائي، وبعد أن يتم انتخاب برلمان جديد تنبثق عنه حكومة جديدة بشرعية كاملة وشاملة يعترف بها الجميع في الداخل والخارج، وتكون قادرة على تهيئة الظروف أمام المفاوضات مع المانحين وجلب الاستثمارات القادرة على تحريك عجلة الاقتصاد، وعلى قطع الطريق أمام التدخلات الأجنبية، وعلى اتخاذ مواقف قوية وشجاعة في وجه المتآمرين على الدولة التونسية وسيادتها.
وبالنسبة إلى حركة النهضة والمتحالفين معها، فإن الانتصار عليهم من داخل الصندوق، كما حدث في المغرب، سيبقى الأفضل للبلاد والعباد، لاسيما أنهم حاليا في أضعف مراحلهم، وأن الرئيس سعيد يحظى بأعلى نسبة من الثقة الشعبية بما يمنحه فرصة كبيرة لتوجيه إرادة الناخبين ولو بصفة غير مباشرة نحو المترشحين الذين يعتقد أنهم الأقدر على التعبير عن قناعاته وثوابته وعلى خدمة مشروعه الذي يؤمن به ويدافع عنه ويرغب في تجسيده على الأرض.