تونس تنتخب برلمانا لإدارة الصراع السياسي وليس للحكم
مختار الدبابي
خلقت نتائج الانتخابات التشريعية أزمة جديدة لتونس في ضوء تشتت الأصوات وتعدد الكتل البرلمانية ما يجعل تشكيل الحكومة أمرا صعبا خاصة في ظل حالة الاستقطاب الكبرى، ما يجعل البرلمان ملعبا للصراع الأيديولوجي والحزبي أكثر من كونه مؤسسة لإدارة الحكم ومراقبته.
أعادت هذه النتائج تأكيد ما حمله الدور الأول من انتخابات الرئاسة من مفاجآت، وحولته إلى نتائج يمكن البناء عليها للوصول إلى استنتاجات كبرى بشأن المشهد السياسي التونسي ونوعية اختيارات الرأي العام التي تعولمت ودخلت سياق التحولات التي أفرزها صعود اليمين الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة.
وإذا كان اليمين هنا غير اليمين هناك، فإن النتيجة الأكثر دلالة هي أن الطبقة السياسية التقليدية ذات النفس الليبرالي العقلاني والشعارات الباردة قد تراجعت بشكل كبير وتركت مكانها لصراع يمين- يمين بين الإسلاميين وشعبوية صاعدة تعتقد أن التغيير لا بد أن يكون جذريا ومتسارعا كردّ فعل على بطء التغييرات التي أحدثتها الدولة الوطنية خلال ستين عاما، فضلا عن مرحلة الارتباك والفوضى التي عاشتها البلاد ما بعد احتجاجات 2011.
وكانت تلك الاحتجاجات قد انطلقت في صورة ثورة قوية لكن جرى توجيهها لتصبح مجرّد مطالب سياسية إصلاحية مغفلة المسوغات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت المحددة في تلك الانتفاضة المفاجئة والمحدودة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي.
زلزال في بيت النهضة
المفارق هنا، أن الشعبوية طالت معظم التوجهات الكبرى من الداخل، فقد أفضى الحراك داخل الإسلاميين إلى تقهقر حركة النهضة بشكل لافت بعد أن حاولت خلال ثماني سنوات من المشاركة في الحكم أن تتحكم في راديكالية أفكارها ولجمت رغبة قيادات تاريخية في التمسك بتطبيق الشريعة لفائدة جيل مخضرم تربّى في الغرب ويعتقد بإمكانية التغيير الجزئي ذي النفس الطويل.
دفعت هذه التراجعات التكتيكية البراغماتية بصعود تيار على يمين النهضة، جزء من قياداته تربّى في الحركة ذات الخلفية الإخوانية، وكان يراهن على أن تكون لها اليد الطولى في الحكم وتحقيق الشعارات التاريخية عن الحكم بالشريعة، وخاصة القصاص من منظومة الحكم التي رمت بالإسلاميين في السجون والقطع مع ارتباطاتها الخارجية التقليدية، خاصة العلاقة مع فرنسا ومع الصناديق المالية الدولية.
مثّل هذا التيار الغاضب حزاما للنهضة في سنوات حكمها الأولى ثم بدأ بالانفضاض من حولها بسبب التوافق في 2014 بينها وبين حزب نداء تونس الفائز وقتها بالرئاسية والتشريعية. وكان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مهندس هذا التوافق لضمان شروط الاستقرار في بلاد كانت تعيش تحت وقع هجمات إرهابية عنيفة، فضلا عن الاغتيالات السياسية.
وخلال حملته الانتخابية، حاول راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التدارك وإظهار أن التنظيم الإسلامي، الأكثر شعبية في تونس منذ السبعينات، لم يتحول إلى تيار إصلاحي مهادن للفساد ومتآلف مع المنظومة القديمة التي قادت البلاد إلى أزماتها الخانقة، إلا أن “اعتراف الغرغرة” كما وصفه أحد النشطاء على مواقع التواصل لم ينقذ الحركة من الزلزال التشريعي رغم فوزها المحدود، لتفقد بذلك جزءا كبيرا من جمهورها لفائدة “ائتلاف الكرامة” الذي يوصف بالابن العاق لها.
وحاز ائتلاف الكرامة على 18 مقعدا في البرلمان، ما يجعله ورقة بيد النهضة لإخافة خصومها والإقناع بأنها لم تتراجع عن لعب الدور المحوري في العملية السياسية، لكن هذا التيار سيمثل صداعا دائما لها في السنوات الخمس الأخيرة لوجود وجوه داخله لا تخفي تشددها في اتجاهات شتى، ولاسيما رفضه القاطع أي صلات بالمنظومة القديمة وارتباطاتها الخارجية، وهو ما يعني أن ما بنته النهضة من “انفتاح” على الداخل والخارج ستضطر للتراجع عنه مرغمة تحت ضغط “الابن العاق” الذي يريد امتحان شعاراته في التغيير الجارف.
الشعبوية تضرب اليسار
لعل أبرز ضحايا الشعبوية، التي تتسم شعاراتها بالحسم والبساطة إلى حد السذاجة، هو التيار الليبرالي التقليدي، أو ما يعرف بالعائلة الوسطية، والذي تمتد جذوره إلى تأسيس الدولة الوطنية، أي منذ حكم الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة، مرورا بزين العابدين بن علي وصولا إلى الباجي قائد السبسي.
وكشفت النتائج صعودا كبيرا لحزب “قلب تونس” الذي يتزعمه نبيل القروي، وكذلك الحزب الدستوري الحر لعبير موسي، وكلاهما يتخطى الليبرالية في صورتها الكلاسيكية الباردة إلى ليبرالية جديدة تؤمن بالصدام والتحدي.
في المقابل، ذهب صعود الشعبوية الكاسح بأحلام اليسار التونسي، الذي يبدو أنه استسلم لقدره ورضي بلعب أدوار ثانوية، بعضها بالوكالة، بسبب صراع الزعامات الذي أفضى إلى انقسام “الجبهة الشعبية” وتسبب في النتائج المخيبة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والتي ترك فيها اليسار الراديكالي مكانه وجمهوره الانتخابي للتيار الديمقراطي (وسط يسار) وحركة الشعب (قومي ناصري).
وبات من الواضح أن الثورة لم تغير اليسار وتدفعه إلى البراغماتية التي قادت اليسار في أغلب دول العالم إلى التخلي عن الماركسية الأيديولوجية الجافة، والنزول بها إلى الأرض، وأن التيار الديمقراطي يمكن أن يلعب بديلا مستقبليا لأزمة اليسار الحالي من خلال يسار اجتماعي محلي يركز على التغييرات العميقة ويتخلى عن التقاطع مع منظومة الحكم.
لا بدائل
لا شك أن الجماهير الغاضبة، واليائسة من التغيير البارد والإصلاحات الجزئية طويلة النفس، قد عاقبت الأحزاب التقليدية وأعطتها دروسا قاسية، لكنها سلمت المهمة إلى مجموعات وشخصيات لا تملك من الحلول سوى إطلاق الشعارات والوعود في ظل واقع دولي معقد وبلاد مرتهنة بشكل شبه كامل للخارج.
يمكنك أن تصب الغضب على الفساد والمحسوبية وإغراق المؤسسات بالانتدابات العشوائية لاسترضاء أحزاب ونقابات وترويض قطاعات حيوية متنطعة، لكن يجب أن تكون قادرا على توظيف حماس الجماهير ليس فقط للقطع مع هذه الظاهرة وإعادة تصويبها، ولكن لبناء برامج ومشاريع تحقق تطلعات الناس في العمل وتحسين مستوى العيش والتحكم في التضخم ولو بشكل جزئي وتدريجي.
إن الناس قد عاقبت الفاشلين. ولكن لا يبدو أنها تنتظر نتائج من الصاعدين الجدد الذين دأب أغلبهم على لعب دور المعارضة المريح، وهو دور لا يتطلب من صاحبه سوى رفع الصوت وإطلاق شعارات بلا سقف ثم العودة إلى قواعده آمنا.
من يقدر من هذه المجموعات الشعبوية الصاعدة على تحقيق الزخم من الانتظارات؟ هل تعني “نظافة اليد” و”صفاء الرؤية” شيئا للناخبين الذين يبحثون عن وجوه جديدة لأجل التغيير، وليس فقط للظهور بالتلفزيون في مظهر البطل الذي يعارض كل شيء ويفضح أخطاء الآخرين.
وفي أول تعليق على حصول التيار الديمقراطي على 14 مقعدا، قال رئيسه محمد عبّو إنه لن يتحالف مع حركة النهضة ولا مع “قلب تونس”، وإنه سيكتفي بدور المعارض القوي للسياسات الاقتصادية والمالية لأي حكومة قادمة. ونفس الموقف أطلقه قياديون ونشطاء من حركة الشعب، محذرين من أن التحالف مع حركة النهضة سيهدد بمصير شبيه بمن تحالفوا معها في السابق مثل حزب التكتل (مصطفى بن جعفر)، وحزب المؤتمر لأجل الجمهورية (منصف المرزوقي)، ونداء تونس الذي أسسه الرئيس الراحل قائد السبسي.
انتخابات مبكرة
لن يستمر البرلمان الجديد طويلا إذا استمر الفرقاء بنفس الأسلوب الذي تمّ إظهاره للعلن ساعات بعد إعلان النتائج الأولية، إذ لا يمكن تشكيل حكومة جديدة بكل الفرضيات الممكنة طالما أن كتلا وازنة تختار من الآن موقع المعارضة والاكتفاء بالفرجة في وضع اجتماعي واقتصادي صعب.
وتحتاج البلاد إلى معجزة لبناء توافق برلماني (حكومي) جديد على أرضية الحد الأدنى يكون هدفه الأول تمرير قانون المالية. لكن المعضلة ستكون في شروط هذا التوافق ومن سيدعو له أو يضغط لأجل التوصل إليه مثلما جرى في 2014، حيث للرئيس الراحل قائد السبسي تأثير جلي في ذلك.
وما يضاعف من حدة الأزمة أن النهضة التي يفترض أن تتقدم لتشكيل الحكومة ستزجّ، وفق المؤشرات الأولى، برئيسها راشد الغنوشي لقيادة المشاورات، وهي رسالة سلبية بكل المقاييس في ظل التحفظ الواسع داخليا وخارجيا على رمزية الغنوشي وتاريخه، فهل ستضطر إلى تغيير خيارها والدفع بشخصية براغماتية من داخلها مثل زياد العذاري، أو تلجأ إلى خيار الشخصية المستقلة لاسترضاء الكتل الأخرى التي ستحرص على انتزاع تنازلات مؤلمة للنهضة إذا قبلت بالجلوس إليها.
وبدأ الحديث عن أن الغنوشي قد يلجأ إلى رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد كبديل لامتصاص المعارضة الواسعة ضد النهضة، خاصة أن عمل حكومة الشاهد سيستمر إلى أن يتوصل البرلمان إلى تحالف حكومي، وهو أمر مستبعد، ما يجعل الشاهد مرشحا للاستمرار في موقعه لأشهر.
وقد يلعب قيس سعيّد إذا فاز بالانتخابات الرئاسية دورا في التقريب بين النهضة والوجوه الجديدة الصاعدة في البرلمان، في اتجاه بناء حزام برلماني من حول الرئيس القادم يحقق الحدّ الأدنى في الحرب على الفساد وإرسال رسائل طمأنة للشارع.
وإذا استمرت الأزمة طويلا، فإن خيار الانتخابات التشريعية المبكرة سيكون هو الحل الأقرب لكنه الأكثر كلفة، إذ سيحمل معه نسبة مشاركة أقل وعزوفا أوسع في الشارع، ما يجعل الطبقة السياسية المنتخبة بشرعية محدودة، وهو ما يمسّ من مشروعية الانتقال الديمقراطي الذي يتمّ الركوب عليه لتبرير الفشل في فتح الملفات الاقتصادية والاجتماعية. كما أنه قد يدفع الناس، وخاصة الفئات الشبابية المتضررة، إلى اختبار أساليب جديدة في التغيير قد يكون من بينها النزول إلى الشارع من جديد مستفيدة من الزخم الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي.
ويمكن التنبؤ بسهولة أن النظام الانتخابي الذي تم اختياره خصيصا لوضع العصا في العجلة سيعطي خمس سنوات جديدة من الفوضى السياسية، ولكن الأهم خمس سنوات من التراجع الاقتصادي وتدنّي الدينار وتراكم المديونية. كما أن نظام الحكم الضعيف والفاشل يفتح الباب لعودة الإرهاب.