تونس تنتزع اتفاقا إيجابيا من مخالب الأوروبيين
باستثناء أصوات منفردة هنا وهناك حاولت جاهدة العثور على مبرر حتى ولو كان غير موجود للتشكيك بالاتفاق، لا يزال السكوت يخيم على المعارضة التونسية وعلى اتحاد الشغل. فهل نفهم من هذا أن هناك موافقة ضمنية على الاتفاق الذي تم التوقيع عليه يوم الأحد بين تونس ودول أوروبية؟
السكوت يعتبر عادة علامة من علامات الرضا، ولو كانت خجولة.. لذلك علينا، حتى هذه اللحظة، أن نتفاءل.
إلى أن يصدر ما يوضح موقف المعارضة من الاتفاق، لا يمكن الحسم في هذا الموضوع. ولكن، ما هو مؤكد أن الاتفاق، ببنوده الخمسة، كان مفاجأة لقوى معارضة ونقابات اختلط عليها الأمر، وباتت تظن أن مهمتها التي وجدت من أجلها هي الاحتجاج ورفض أي خطوة تخطوها الحكومة التونسية، والتطيّر منها.
تاريخيا، دور المعارضة مهم في تقويم الحاكم. لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية بعيدا عن معارضة قوية. لا خلاف حول ذلك. ولكن، على ألّا يتحول هذا الدور إلى حالة إدمان، ويصبح مجرد نكاية بالطهارة، وتتحول كل خطوة تتخذها الحكومة إلى “عنزة ولو طارت”.
دور أحزاب المعارضة هو تقديم برامج بديلة عن برامج الحكومة، تقتنع بها الغالبية وترى فيها الحل الكافي والشافي لمشاكل البلد، ومن ضمنها الهجرة غير الشرعية.
العلاج طعمه مرّ، هذه قناعة أصبحت اليوم راسخة في ذهن التونسيين الذين يؤكد سبر الآراء أن غالبيتهم مازالت تدعم الرئيس قيس سعيد.
بصبر كبير انتزع سعيد اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي للتعامل مع أزمة الهجرة، يمكن اعتباره نموذجاً يبنى عليه لإقامة شراكات أوروبية ليس فقط مع تونس بل أيضا مع دول شمال أفريقيا، وهو ما يسعى له الاتحاد الأوروبي الآن مع كل من مصر والمغرب.
الهجرة شكلت في الاتفاق ملفا واحدا من بين خمسة ملفات هي: استقرار الاقتصاد الكلي، التجارة والاستثمارات، الانتقال نحو الطاقة الخضراء، التقريب بين الشعوب، والهجرة.
هل تقبل المعارضة التونسية في الاتفاق وتباركه، أم تبحث عن مبررات للتشكيك والتقليل من قيمة ما تم التوصل إليه دون أن تقدم حلولا بديلة؟
المطلوب من كل طرف يعارض الاتفاق أو يجد فيه عيبا، أن يأتي ببرهانه ليثبت صدق نواياه.
ليس من مصلحة أي دولة، كما هو ليس من مصلحة تونس، أن تتحول إلى منطقة عبور، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تشهدها دول العالم وتشهدها تونس.
من يظن أن الحكومة التونسية بقبولها للاتفاق مع الدول الأوروبية رضيت، بذلك، أن تتحول إلى شرطي حدود، فهو مخطئ.
الاتفاق، على عكس ما يروج له البعض، لم ينص على عودة المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين إلى تونس، بل على “عودة التونسيين المقيمين في الاتحاد الأوروبي خلافا للقانون إلى بلدهم”.
بأوروبا أو دونها، لا تستطيع الحكومة التونسية أن تتنصل من مسؤوليتها لتأمين حدود بلادها، الحدود وجدت لحماية البلاد من المتسللين. خاصة عندما تقف وراء الظاهرة عصابات حولت تهريب البشر إلى تجارة ومكسب.
ولم لا، قد يكون الأمر أيضا متعمدا لإحراج الحكومة التونسية. والحديث عن أموال تم تحويلها إلى المهاجرين المتسللين، يكفي لإثارة الريبة والمخاوف والظنون.
لنتخيل سيناريو اللاجئون فيه جاءوا تونس مستجيرين بأهلها من كارثة دمرت بلادهم، أو من حرب إبادة، هل كانت تونس والتونسيون، وفي مقدمتهم الرئيس سعيد، ليتوانوا ولو دقيقة عن استقبالهم وتقديم كل ما لديهم لإطعامهم وإيوائهم؟
ومن يظن أن موقف الحكومة التونسية وموقف رئيسها من المهاجرين السريين لهما علاقة بلون بشرتهم وأصولهم الأفريقية نذكّره بأن تونس أول بلد في العالم ألغى العبودية والرق بوثيقة رسمية.
التونسيون شعب كريم مضياف، طالما وقف إلى جانب جيرانه وشاركهم لقمته. اسألوا الجزائريين، والفلسطينيين، والليبيين، والسوريين.. سيروون لكم قصصا عن كرم التونسيين ونصرتهم لكل وافد إليهم ومستجير بهم.
سمعت الكثير من أصدقاء ليبيين استجاروا بتونس هربا من الحرب، وسمعت أكثر من سوريين جاءوا تونس مستجيرين فأجارتهم.
وهل ينسى الجزائريون وقوف التونسيين إلى جانبهم في كفاحهم ضد المستعمر الفرنسي؟
حكاية الفلسطينيين الذين جاؤوا تونس مرحّلين من مخيمات لبنان فأسكنوهم واحدة من أجمل مناطق تونس العاصمة، حكاية أخرى عن كرم الضيافة وإجارة المستجير، أفضل من عبر عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي قال في تونس وأهلها قصيدة طويلة، نختار منها مقطعا لن يمحى من الذاكرة البشرية:
“كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس/ لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند السمح ما لم نر في أي بلد آخر”.
نعم، لو كان في صدر التونسيين متسع لاحتضان كل مآسي البشر، لاحتضنوها.
وهو ما عبر عنه الرئيس سعيد خير تعبير بقوله “لقد أعطى التونسيون هؤلاء المهاجرين كل ما يمكن تقديمه بكرم غير محدود”.
ولكن، التونسيون اليوم لا يمتلكون جوادا يذبحونه سرا ويقدمون لحمه طعاما للعابرين.