تونس: صفحة جديدة في انتظار النخب السياسية والثقافية
حكيم مرزوقي
94.6 في المئة نسبة كانت تثير السخرية والضحك أيام حكم الرئيس زين العابدين بن علي في تونس، لكن لا أحد يشكك فيها اليوم وقد أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إثر الاستفتاء على الدستور الجديد الذي جرى بمنتهى الشفافية داخل البلاد وخارجها، يوم 25 يوليو الماضي.
دخل الدستور الجديد حيز التنفيذ إذن، و”حُصّل ما في السطور” فانبرى إلى صمتهم القائلون بأن تونس قد انضمت إلى “نادي الديمقراطيات الفاشلة” أو “الدكتاتوريات الصاعدة”، إذ لا وقت للتونسيين كي يضيعوه في لزوم ما لا يلزم بعد عشرية حالكة من الكلام المباح والوطن المستباح.
دقت ساعة العمل الجدي والتفكير الهادئ الرصين البارد أمام ملفات حارقة تخص لقمة عيش المواطن ومستقبل أبنائه أمام تحديات من شأنها أن تعصف بالبلاد كلها، فلا حديث عندئذ عن نواد غير “نادي الأوطان المنهارة”.
الأمر هنا لا يتعلّق بتمجيد زعيم ملهم وقائد مخلّص وجماهير ثائرة وهلمّ جرا من تلك العبارات والشعارات التي سادت ثم بادت واندثرت من قواميس السياسة بل بما يجب أن يكون، سواء كان عن طريق قيس سعيد أو غيره.
التونسيون، هذا الشعب النزق الصبور، الطيب الماكر، لم تعد تنطلي عليه حيل الشعارات الرنانة والجمل المنتفخة بعد أن ودع الحكم الفردي مرة واحدة وإلى الأبد.
وبناء على ما تقدم، لا خوف على هذا الشعب الذي بلغ من النضج ما لا يجعله يلدغ من جحر الظلم والاستخفاف بكرامته مرتين، كما أنه يستند إلى إرث ثقافي، وكذلك وعي حضاري قل نظيره في العالم العربي، لذلك لا مكان لمن يدّعي الوصاية على التونسيين سواء من كان في الحكم أو في المعارضة أو ممّن يحن إلى أزمنة الاستعمار في الخارج.
المخاوف والتوجسات تظل قائمة ومشروعة لدى النخب الثقافية والسياسية في تونس كما كانت وستبقى بعد إقرار الدستور الجديد، وهو أمر صحيّ بل ولا بد منه في دولة مدنية ديمقراطية ينبغي أن تحرسها القوى المتيقظة وتنبه من مغبة السقوط في الانحرافات والتجاوزات.
ما يدفع للطمأنة أن التقاليد الدستورية في تونس ضاربة في التاريخ (أول دستور في أفريقيا والعالمين العربي والإسلامي كان في تونس سنة 1861)، لذلك لا مجال للتحذير من سلطة تنفيذية برأس واحد كما يروّج الإسلاميون الذين كانوا يستأثرون بالحكومة والبرلمان ويسوحون ويمرحون بينهما في شراء الذمم ومحاولة اختراق الأجهزة القضائية وغيرها.
وما يعد بحياة سياسية وبرلمانية سليمة في تونس هو أن مشروع الدستور الجديد سيقطع مع المشاهد السابقة في مجلس النواب من سياحة حزبية وشراء الذمم وتضارب المصالح، لذلك يردد المواطن التونسي البسيط في الشارع مبتهجا بالدستور الجديد عبارة “نفسخو ونعاودو من جديد” أي نمحو أخطاء السابق ونعيد صفحة جديدة.. تماما كما لو أنه تلميذ أوشك على الرسوب ثم منح فرصة جديدة.
هذا اللوح أو الصفحة التي سيعيد فيها المواطن التونسي كتابة درسه في المدرسة الديمقراطية الناشئة سوف تكون بخط واثق دون أياد مرتعشة أو أخطاء مكررة أو إملاءات من أحزاب سياسية مترهلة أو أيديولوجيات فاشلة، كما هو الحال في تجربة الإسلام السياسي الذي طُرد من “الصف” إلى غير رجعة.
مثقفو تونس بدورهم، كانت غالبيتهم الساحقة مع قيس سعيد، لكنهم كانوا متوجسين ومترددين ومتحفظين حيال الاستفتاء على الدستور، ذلك أن قسما كبيرا منهم قد اتعظ من تجربة الارتماء الكامل في أحضان السلطة أيام بن علي، دون أن تطلب منه ذلك.. وهو أمر مشين يتذكره النفعيون بخجل شديد.
لسائل أن يسأل: الآن وقد انقشعت الغيوم، واتضحت الأمور التي آلت إلى ما قاله الشعب في صناديق الاستفتاء، لماذا تطيلون هذا التردد والانتظار؟
هل سُحل أحدكم في السجن أو التوقيف، هل منعتم من الإدلاء بآرائكم، هل ضيقت الرقابة على إنتاجاتكم الإبداعية؟ فلماذا إذن هذا البطء في أخذ زمام المبادرة؟ هل يخشى واحدكم أن ينعت بالتبعية للسلطة والأكل على موائد السلطان؟
الحق أننا ودعنا تلك الأزمنة إلى الأبد بل ويدفعكم سعيد إلى تطليقها دفعا بعد أن حاول راشد الغنوشي أن يستعيدها على شكل مناصب وامتيازات، في مقر إقامته على طريقة السلاطين العثمانيين.
طبعا، لا يمكن وضع جميع المثقفين التونسيين في سلة واحدة، فمنهم من جلس على يمين الحاكم واستفاد من هباته منذ بدء دولة الاستقلال، ومنهم من آثر الجلوس على يسار السلطة.. وهو الأصل في مهمة المثقف عبر التاريخ.
أن تجرّ الحاكم وتستدرجه بل تورطه في مشروعك التنويري لهو، طبعا، أصوب من أن يستدرجك نحو غاياته، والتي هي إحكام القبضة وفرض الهيمنة.. وهو الأصل في “طبائع الاستبداد” كما يقول الإصلاحي والتنويري الكبير عبدالرحمن الكواكبي.
ولأن نسل وأحفاد عبدالرحمن بن خلدون في تونس قد دأبوا على البحث عن المعادلة المستحيلة بين مناصرة الشعب دون معاداة السلطان، فالكرة مازالت في ملعبهم وهم منقسمون على أنفسهم من يسدد نحو المرمى.