تونس على أبواب الانتخابات: الأولوية للخطط والبرامج
أثار اهتمام الرئيس التونسي قيس سعيد قبل أيام بالملفات الاجتماعية التي تعنى بالقطاعات الهشة والضعيفة جدلا على مواقع التواصل الاجتماعي عن توقيت هذا الاهتمام. هناك من قال إن الأمر يدخل ضمن مقاربة الدولة التي بدأت مع مسار 25 يوليو 2021، والتي تعطي الأولوية في الإصلاحات للفئات الضعيفة، وليس ثمة ما يستدعي الجدل.
البعض الآخر ربطها بالانتخابات الرئاسية المقررة نهاية العام الحالي، وإن كان موعدها لم يحدد بعد، وأن الأمر قد يكون حملة انتخابية مبكرة مع لجوء معارضين إلى انتقاد حصيلة قيس سعيد خلال السنوات التي حكم فيها بكامل الصلاحيات. وأيا كانت خلفية الاهتمام بالموضوع، فهي تظهر حاجة التونسيين إلى أن يقيّموا تجربة حكم الرئيس سعيد وتجربة الحكومة الحالية والتي قبلها، وماذا قدمت للناس، وكذلك من حقهم أن يطلعوا على مقاربتها للمستقبل، ماذا تريد، وكيف تفكر، وما هي خططها للمرحلة القادمة؟
الكثير من الفئات الشعبية مع الرئيس سعيد، لكنهم يريدون تنزيل انحيازه لهم في برامج حكومية تفصيلية ومشاريع تُرى رأي العين. الرئيس يلاحظ ويقترح، وهناك جهات مهمتها أن تحول الفكرة إلى برامح تفصيلية لخدمة الناس، بعيدا عن الشعارات.
ليس قدرا على التونسيين أن يدخلوا إلى الانتخابات على قاعدة الفرز السياسي، وأن يختاروا رئيسا لاعتبارات تتعلق بشخصه أو بخلفيته الفكرية والحزبية. لقد جربوا الأمر خلال السنوات الماضية، في انتخابات 2011 و2014 و2019، وهو مسار يجب أن ينتهي، وأن يركز الناخب، كما في الديمقراطيات العريقة، على البعد الاجتماعي المباشر، أي ماذا يقترح المرشح من خطط وأفكار لتحسين ظروف عيش الناس.
مرحلة الارتجال في حل المشكلات كانت ضرورية للخروج من تعقيدات الحكومات العاجزة المتعاقبة وعثرات البرلمان. وفي ذروة الهوس الأيديولوجي لم يكن لمرشح أيّا كان أن يقدم نفسه بأسلوب بارد، وأن يحكي عن خفض الضريبة بنقطة، أو التعديل في نسبة الفائدة البنكية، أو الضغط على البنوك لتخفيض الاقتطاعات بموجب أو بغير موجب. في ظل الهوجات السابقة لم يكن أحد ليلتفت إليه.
الآن خفت تلك الهوجات، صار الناس غير معنيين بصراع اليمين مع اليسار، ولا بالاختيار بين “الإسلام هو الحل” وبين النظام القاعدي أو تأميم مؤسسات الدولة. قد تكون أفكارا مهمة في ذاتها ولأصحابها. لكن الناس خبروها بما يكفي وباتوا يريدون انتخابات تحل مشاكلهم المباشرة، تحل مشكلة شح العملة الصعبة، ومشكلة توريد القمح في ظل تراجع ملحوظ للإنتاج المحلي لظروف تتعلق بالتغييرات المناخية، وبخيارات سابقة طغى عليها الفشل. فتأمين الخبز لا يتطلب فقط حماسا وعدلا في طريقة توزيعه ومنع احتكار الدقيق.
الناس يريدون أفكارا حكومية عملية وملموسة لتحسين واقع الزراعة في البلاد، وكيفية تأمين تزويد السوق بالخضروات والغلال واللحوم الحمراء والبيضاء والحد من الأسعار المنتفخة، وتقديم بدائل محلية لأزمة الأعلاف الحيوانية التي تغذي أزمة الأسعار.
ويفهم الرئيس سعيّد هذه المطالب، ولذلك حث الجمعة رئيس الحكومة أحمد الحشّاني على “ضرورة تعزيز العمل الحكومي خاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، والإسراع في إعداد النصوص التشريعية التي تقطع مع الماضي وتفتح آفاقا أوسع لكل التونسيين من أجل تحقيق الثروة والتوزيع العادل لها”.
من المهم أن تقوم الحكومة بنفسها بتقييم أدائها في ما يخص المواضيع التي يهتم بها الناس. وتضع تقييما واضحا، قطاعا بقطاع، ومعضلة بمعضلة، ثم تقدم خططها التفصيلية لتصويب ما فات من جهة، والاستجابة لمطالب جديدة، وألا تكتفي بالاتكاء على خطاب الرئيس سعيد وتحركاته ومتابعاته ولقاءاته مع الناس. الرئيس عادة يقف دوره عند التوجيه العام، وعلى الحكومة أن تحول ذلك إلى أفكار تفصيلية ثم تقدمها له ليعدل ويطور ويقترح ثم تتوكل على الله وتبدأ بالإنجاز، ولذلك تسمى هياكلها ومؤسساتها بالأجهزة التنفيذية.
ليس مطلوبا من رئيس الجمهورية أن يقف بنفسه على تفاصيل عمل وزارات التجارة والصناعة والزراعة والتخطيط والاستثمار والتربية. ليتحملْ كل وزير مسؤوليته حتى يعطي المثل لمنظوريه من وزراء شؤون ورؤساء لجان وأقسام ومصالح ليبدؤوا بدورهم بالتخطيط والمبادرة ومراقبة الأجهزة التي تتبعهم.
حين يقف الوزير بشكل مباشر على تفاصيل وزارته سيعمل الذين يعملون تحت إمرته بنفس الحماس ويحققون نتائج مهمة تخرج الإدارة من حيادها البارد وتكسر أنساق البيروقراطية التي تعتبر المعرقل الرئيسي للإصلاح، ما جعل الرئيس سعيد يدعم تعديل الفصل 96 لإضافة بند يتعلق بمعاقبة الموظفين الذين يعرقلون أو يمتنعون عن تقديم الخدمات الموكولة إليهم وفق صلاحياتهم الإدارية.
ما يزال البعض يعتقد أن المعركة سياسية وليست اقتصادية، وأن تصفية موروث العشرية الماضية شرط ضروري لبناء مرحلة جديدة، ويجب أن تستمر الدولة فيه وبقوة، ولو بتحريك ملفات وجهات تجاوزها الزمن.
أولا؛ الحكومة لا علاقة لها بمعارك السياسة. دور الحكومة هو تنزيل أفكار الرئيس في مجالات العمل الوزاري اليومية. وتقييم ما تحقق وعرض أفكار جديدة للتطوير. ومعالجة الخلل في الإدارة، وعرض مشاريع قوانين جديدة لتحسين أداء المؤسسات الحكومية، ووضع خطط لإنقاذ المؤسسات الخاصة المتوسطة والصغيرة التي ابتلعتها أزمة ما بعد كوفيد ومخلفاتها محليا وخارجيا.
ثانيا؛ المعارك السياسية لا تنتهي، ويمكن خوضها بأجندات شخصية أو حزبية من دون تعطيل عمل الحكومة وخططها، ولا يمكن بأيّ شكل التخفي وراء “الأولويات السياسية” للتغطية على العجز وتبرير التقصير، فتحسين معاش الناس أولى من حروب السياسة، وهذا أهم مأخذ على منظومة ما قبل 25 يوليو 2021، فلماذا يصر البعض على العودة إلى مربع الأزمات.
ثالثا؛ المعارك السياسية لا تضع الجميع في سلة واحدة. ليس من مصلحة السلطة أن تستعدي قطاعات مثل الإعلام والمحاماة في المعركة مع الخصوم السياسيين حتى لو كانوا متنطعين أو من يتحركون لأجندات حزبية.
قد يكون صدر جهات في السلطة أو من محيطها يضيق بفكرة النقد مطلقا وتريد أن تحولها إلى معركة من بوابة أجهزة الدولة. لكن الدولة التي تريد أن تحقق نتائج اقتصادية واجتماعية وتوسع دائرة شعبيتها تحتاج إلى الهدوء وإلى تحصيل دعم أوسع، سياسيا وإعلاميا، وألا تستنسخ المعارك القديمة.
الوقت الآن للعمل والتنمية والاهتمام بالفئات المختلفة. ومثلما أن الدولة تهتم بالفئات الاجتماعية الضعيفة، وهو توجه محمود ويجب تدعيمه وتنزيله في خطط واقعية لا تثقل كاهل الدولة بأعباء أكبر من طاقتها، فمن واجبها أن تهتم ببقية الفئات بدءا من الفئة – الطبقة الوسطى التي كانت قبل 2011 تمثل النسبة الأكبر، فتقلصت بعد الثورة وتشتتت ولحق أغلب المنتسبين إليها، بمن في ذلك موظفو الدولة، بالفئات الضعيفة بسبب مخلفات الأزمة الاقتصادية.
كما من واجبها أن تهتم برجال المال والأعمال ومالكي المؤسسات الاقتصادية، تقترب منهم وتفهم مشاكلهم وتساعد مؤسساتهم على الإنتاج في ظروف أفضل. وهذا ما أشار إليه الرئيس سعيد الجمعة في لقائه بالحشاني حين حث على “ضرورة تبسيط الإجراءات الإدارية حتى لا تكون عقبة أمام المستثمرين سواء منهم التونسيون أو الأجانب”.
الرأسمال الوطني يساهم في دعم الدولة من خلال توسيع فرص العمل وكذلك إدخال المزيد من الأموال إلى الخزينة، ومن حقه على الدولة أن تهتم به وتساعده. لكن هذا لا يسقط حقها في أن تستعيد أموالها ممن حصلوا عليها في أزمة ماضية، ولكن بأسلوب التفاهمات. وبالنتيجة، فإن التونسيين، وبعد أن تجاوزت البلاد الكثير من المحطات الانتخابية والدستورية وتستعد الآن للاستحقاق الرئاسي، من الضروري أن يجدوا أمامهم خطة أو خططا عن المطلوب من الرئيس وحكومته للمرحلة القادمة.