تونس – فرنسا.. أوضح من النقاط على الحروف
هي زيارة “عمل وأمل”، تلك التي بدأها وزير الخارجية التونسي نبيل عمّار، إلى فرنسا يوم الثلاثاء الماضي، والتقى خلالها نظيرته كاترين كولونا، في لقاء هو الأول من نوعه بين الوزيرين، وكذلك اجتمع برئيس الجمعية الوطنية الفرنسية جان لويس بورلانج.
واضح أن الدبلوماسية التونسية تتحرك على أعلى مستوياتها وتتأبط ملفات سميكة، بعضها ساخن جدا وقد استعدت للتحضير لها عقب لقاء الرئيس قيس سعيد، مع وزير الخارجية مؤكدا على “تمسّك تونس بعلاقاتها الإستراتيجية مع الدول الأوروبية، ومع الاتحاد الأوروبي، في إطار المصلحة المشتركة” كما جاء في بيان الرئاسة.
لطالما اكتسى حديث تونس مع الجانب الفرنسي خصوصيات تمليها تلك العلاقة التقليدية القائمة على المصارحة دون إغفال بعض الحساسيات العالقة من الجهتين، خصوصا أن كلا البلدين يمثلان بوابتين رئيسيتين: واحدة نحو أفريقيا وقضاياها التنموية والاجتماعية، وثانية نحو أوروبا وتوجساتها الأمنية المغلفة بقضايا حقوقية.
وبسبب ذلك، جاء حرص قيس سعيد على ضرورة التعامل بندية مع الشريك الأوروبي للتذكير بأن ما نحن عليه من ضائقة اقتصادية وضغوطات اجتماعية تستدعي الحاجة إلى المساعدات الأوروبية، لا يبيح ـ بأي شكل من الأشكال ـ التدخل في شؤوننا الداخلية تحت ذرائع حقوقية أو غيرها.
هذه الندية المطلوبة من الرئيس التونسي هي بمثابة الشرط الأساسي والضمان الأمثل للدخول في أيّ حوار يهدف إلى التعاون بين ضفتي المتوسط، إذ لا يمكن أن ينجح أيّ اتفاق بين طرفين غير متكافئين بما في ذلك التصدي لموجات الهجرة القادمة من جنوب المتوسط، والتي تريد أوروبا أن توظف تونس حارسا على شواطئها.
أما عن ملف حقوق الإنسان الذي أمسى ذريعة للضغط على الحكومات والتدخل في شؤونها وخياراتها السياسية، فلم يعد خافيا أنه أصبح ابتزازا سافرا في الوقت الذي تستثني فيه هذه “المرجعية” نفسها من بنوده كما كان يزعم منظّر الاستعمار، الوزير والسياسي الفرنسي جول فرّي، في القرن التاسع عشر.
وما استحضار قيس سعيد، لهذا الرمز الاستعماري في لقائه بوزير خارجتيه عشية زيارته إلى فرنسا، إلا تذكيرا للمتباكين على حقوق الإنسان في تونس، والذائدين بأطياف الاستعمار القديم للاستقواء على الدولة، بأن جول فرّي، كان يرى أن مقولة “حرية مساواة أخوة” لم تنشأ ولا تصلح للشعوب المولّى عليها أي أن المسألة الحقوقية هي آخر اهتمامات القوى الأوروبية بعد مصالحها الحيوية.
وهذه الرسالة موجهة أيضا، نحو جهات أفريقية استشاطت غضبا حين اعتبر سعيد، تدفق المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء إلى الأراضي التونسية بمثابة المؤامرة على البلاد، وشكل من أشكال التفخيخ الديمغرافي، لذلك وجب أن نجد لها حلا.
وبالفعل، دعا الرئيس التونسي إلى تنظيم قمة تجمع دول شمال أفريقيا ودول جنوب الساحل والصحراء ودول شمال البحر المتوسط لمعالجة أسباب الهجرة، مشيراً إلى أن الحلول الأمنية التقليدية أثبتت قصورها وحدودها، فضلاً عن أنها تقوم على معالجة النتائج والآثار، لا القضاء على أسباب الهجرة غير النظامية.
هكذا أسقط في يد كل من يودّ اللعب على الجانب الحقوقي ويستثير جهات خارجية أو داخلية ضد الدولة التونسية فيما يخص هذا الملف.
هل ثمة أوضح من هذا الخطاب؟ أم أن على تونس أن تقوم بجميع هذه المهام المستحيلة وحدها: مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية داخلية، محاربة الهجرة السرية، وحماية الشواطئ الأوروبية.. وإن عجزت عن ذلك فهي مقصرة في الملف الحقوقي والإنساني بنظر غلاة اليمين الأوروبي.
الأنكى من ذلك كله، هو لغة المقايضة السياسية بالمساعدات والقروض المالية أو ما يُعرف بـ”شرط الأعزب على الأرملة” في المثل الشعبي التونسي.
الملفات التي حملها وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج.. ولمؤسسة الدبلوماسية التونسية تعي ما تعنيه هذه التسمية الرسمية، هي ملفات من شأنها أن تُعلي السقف التفاوضي لتونس، وتجعلها على حق في كل ما ذهبت إليه على لسان رئيسها الذي ينتقده معارضوه بأنه شديد العناد.
لكن هذا “العناد” آتى أكله من خلال تفهّم جاء على لسان شخصيات فرنسية عديدة كرئيس الجمعية الوطنية لويس بورلانج، الذي قال من جانبه إن “النواب الفرنسيين تحدوهم الرغبة في دعم تونس، ونجاح جهودها الرامية إلى استدامة المؤسسات الديمقراطية ومواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية”.
وبدورها أكدت وزيرة الخارجية الفرنسية تفهم بلادها للسياق السياسي والاقتصادي الذي تمر به تونس، وذلك في مؤشرات على نجاح المسعى التونسي الذي كان واضحا وشفافا وواقعيا حين شرح أعذاره وفضح نوايا المعارضة الإسلامية التي لم تفلح في اللعب على الورقة الحقوقية لأن فاقد الشيء لا يعطيه.