تونس: لوثة الأحزاب الانتخابية
أمين بن مسعود
تُشير الأنباء القادمة من قبة البرلمان بتونس العاصمة، إلى أن الكتلة البرلمانية لقلب تونس (المكونة من 38 نائبا) بدأت في التشظي والانقسام على وقع تقديم 10 نواب استقالتهم رسميا من الكتلة وتحضيرهم لتشكيل كتلة برلمانية مستقلة.
ولئن حافظ الطرفان، الأطراف المستقيلة وقيادة الحزب، إلى حدّ هذه اللحظة على المرونة في الخطاب الإعلامي وترك باب المصالحة والعودة مفتوحا، فإن الخطوط العريضة للتصريحات الإعلامية تُؤكد أن الاستقالة باتت حقيقة سياسية، وأن القيادة المتبقية لحزب قلب تونس باتت تتعامل مع الوضعية من مُقاربة ما بعد الاستقالة، الأمر الذي يُثبت أنّ الهوّة قائمة بالفعل منذ فترة، وأنها اتسعت مؤخرا، أو لنقل أنها باتت خارج السيطرة والإدارة.
في التفاصيل، تتقاطع المصادر من داخل فريق المنشقين في وجود مشاكل في مستوى حوكمة الحزب وديمقراطية القرار، الأمر الذي أثّر سلبا في أداء الكتلة النيابية وجعل منها معارضة هدامة غير بناءة، فيما يردّ الباقون بأن الحزب الوليد الذي استطاع تحقيق رقم صعب في الانتخابات التشريعية والرئاسية وصار جزءا من معادلة الحُكم والمعارضة في البلاد، بات محل طمع من قبل المستثمرين في الأزمات السياسية، وأن المشاكل الحالية هي جراء افتعال خارجي أكثر منها استحقاقات داخلية.
وبغض النظر عن هذه التجاذبات، فإن سيناريو نداء تونس ليس بعيدا عن قلب تونس، لا فقط لأن الأحزاب السياسية التي تشكلت عقب ثورة الـ14 من يناير 2011، تعاني من هشاشة بنيوية، بل أيضا لأنّ نموذج “الأحزاب الانتخابية” قادر على تحقيق الغاية الاقتراعية ولكنه عاجز عن بلوغ القيمة السياسية لأيّ تنظيم أو حزب يسعى إلى الهيكلة وبناء المؤسسات.
الأحزاب الانتخابية هي لوثة من لوثات التجربة السياسية في تونس، حيث تتعاقد القوى والشخصيات المتنافرة ضمن تنظيم موحّد لغاية المناصب والمقاعد دون وحدة فكرية جامعة، وترتفع الشعارات الجذابة المعقودة بخيط التناقض مع أطراف سياسية مُقابلة قصد خلق هوية حزبية مختلفة عن السائد، وتتقاطع مع منظومات إعلامية ومالية وجمعياتية كبرى لغرض خلق الرأي العام وإحداث التوجيه الاقتراعي.
كل ما تقدم حصل في تونس، لا فقط مع “قلب تونس” ولكن أيضا مع الكثير من التنظيمات السياسية كحزب التيار الوطني الحر، و”عيش تونسي”، وهي تكتلات انتخابية بالأساس وُلدت لغرض الفوز في الانتخابات وتحصيل المناصب التشريعية والرئاسية.
لا جدال بأنه بل من واجب الأحزاب السياسية أن تطمح للحكم ذلك أن أصل نشأتها كامن في تطبيق برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا إشكال أيضا في أن تستعد للانتخابات العامة من خلال تقارب مع بعض الأطراف السياسية القريبة منها قصد توسيع مواقعها الانتخابية، ولكن المفارقة أن لا تنشأ هذه الأحزاب نشأة طبيعية من خلال هيئة تأسيسية تتفرع عنها قيادة وقتية تحضر لمؤتمر عام يضع الخطوط العريضة لخيارات الحزب وأطروحاته وخطابه السياسي والفكري.
فمن المنطقي أن تستعصي على التجمعات الانتخابية إمكانيات التطور والتقدم والاستمرارية، فالأحزاب لا تعيش بمقتضى الماكينات الإعلامية ولا تقوم على المدّ الخيري على أهميته الاجتماعية والأخلاقية، ولا تكبر بكاريزما الشخص المؤسس وإن توفرت فيه ملامح القيادة، بل تتأسس على الحد الأدنى من مأسسة القرار والديمقراطية الداخلية المتمثلة في تشاركية الهياكل المركزية والمحلية والجهوية.
وكلّما تأجلت مواعيد المؤتمرات الحزبية، إما بغرض دفن المشاكل الداخلية أو لأجل احتكار الشرعية ضمن قيادة معينة، كلما سارت الأحزاب نحو التشظي والانقسام.
المُفارقة في حالة قلب تونس، أن أساس الاستقالات، هو ذاته مقدمات تشكيل أيّ حزب سياسي، ونقصد بها العلاقة بين القيادة والكتلة النيابية، والخيارات السياسية الكبرى بالنسبة إلى الحُكم والحكومة، والتموقع ضمن المشهد السياسي والحزبي في تونس. فمُحاربة الفقر ليست طرحا سياسيا ولا أطروحة فكرية عميقة، بل هي شعار وعنوان عمل أكثر منه فلسفة حزب سياسي منوط به التأصيل لخيارات سياسية واقتصادية واجتماعية قائمة وقادمة.
وكان من الأولى أن تُناقش هذه الخيارات والمسائل في الهيئات التأسيسية والتسييرية المؤقتة، قبل الانخراط في استحقاقات انتخابية كبرى، قد تخفي الاختلافات ولكنها لن تلغيها وقد تؤخر التباينات ولكنها لن تحوّلها إلى توافقات.
جزء من إشكالية الحالة الحزبية في تونس، أن المشهد انتقل من التصحر التام إبان نظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، إلى الانحسار في المضامين إبان ثورة الـ14 من يناير، حيث صارت الأحزاب لا فقط مطيّات غنائمية للمناصب والمكاسب بما فيها الحصانة البرلمانية، بل إن الكثير منها صار قمة الجبل الظاهر لمنظومات عميقة من التحالف المدنّس بين الإعلام والمال الفاسد والتهرب الضريبي.
نتفق مع بعض قيادات قلب تونس التي تعزو هذه الاستقالات إلى ضغوطات خارجية، لأن كتلة بـ38 نائبا في البرلمان، كتلة عريضة ووازنة وتثير لعاب الباحثين عن حزام سياسي قويّ للحكومة، كما تثير الراغبين في تقوية الجبهة الراديكالية المعارضة لمنظومة الحكم في البلاد، ولكن الثابت أن شرعية القيادات تُصنعُ في المؤتمرات الحزبية وتتجدد فيها أيضا، وليس بسطوة الإعلام أو كاريزما الشخص، وما وضعية نداء تونس منا ببعيد.