جرس إنذار لمصر قبل أن تتكرر مشاكلها مع السودان الجديد
محمد أبو الفضل
تواترت مجموعة من الإشارات في مصر والسودان أخيرا، تحذر من عدم استبعاد تكرار المشكلات بين البلدين، فما ظهر من انسجام بين القاهرة والخرطوم عقب عزل الرئيس عمر حسن البشير قد لا يعبر بدقة عن متانة أصيلة في العلاقات، ويمكن لرواسب الماضي القريب، فضلا عن البعيد، أن تؤثر سلبا على أفق العلاقة بينهما ما لم يسرع الجانبان إلى إخماد النيران الموجودة تحت رماد بعض القوى السياسية.
الفتور الذي استقبلت به كلمة مصطفى مدبولي رئيس وزراء مصر السبت الماضي، أثناء حفل التوقيع على الاتفاق النهائي في الخرطوم بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، كشف عن ملمح سريع حول رؤية السودانيين لمصر، مقارنة بإثيوبيا مثلا، التي استقبل رئيس وزرائها بحفاوة بالغة واستمر التصفيق لكلمته بعد توقيع الاتفاق نحو دقيقتين.
تشير هذه المقارنة البسيطة إلى ما يمكن أن تكون عليه العلاقات الكبيرة مستقبلا بين الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا. فمع أن التوافق يبدو واضحا، غير أن حل المشكلات العالقة يحتاج إلى تفاهمات وتنازلات متبادلة. من الصعوبة التوصل إلى هذه النقطة ما لم تكن مدفوعة بإرادة رسمية وشعبية، لأن الأولى وحدها لن تكون كافية لتجاوز تحديات متراكمة من دون الاستناد إلى الثانية التي يرجح أن تلعب دورا حيويا في السودان الجديد.
لم ينتبه صناع القرار في البلدين لجرس الإنذار، لأنه جاء متقطعا وهادئا، بيد أن المتابعين للتطورات السياسية بينهما استمعوا إلى صوته جيدا. الأمر الذي فرض على المهمومين بتحسن العلاقات الانتباه لذلك جيدا بينما صم المغرمون بتخريبها آذانهم أو قللوا من أهميتها، ولعلّهم قد نفخوا بالسلب فيها.
ارتاحت القاهرة لتنحية البشير وتقويض دور الحركة الإسلامية في السلطة. وأبدت تجاوبا مع المجلس العسكري الانتقالي الذي أمسك بالسلطة، وأيدت تحركاته للحفاظ على وحدة السودان والتخلص من أنصار الرئيس المخلوع في المؤسسات المختلفة، ما عرضها لانتقادات من قبل بعض الأحزاب والجماعات المهنية التي لعبت الدور الكبير في تحريك الشارع والثورة، واضطرت مصر سريعا إلى تعديل الدفة السياسية لتكون متوازنة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير.
استقبلت قيادات من هؤلاء وهؤلاء، وأخرى من الجبهة الثورية الممثلة لثلاث حركات مسلحة، واستضافت القاهرة اجتماعات بين وفدين من الجبهة وقوى الحرية والتغيير، في محاولة للانفتاح على الجميع وتفنيد الاتهامات التي وجهت إليها مبكرا بانحيازها إلى الجيش، تأسيسا على انحدار الرئيس (المشير) عبدالفتاح السيسي من المؤسسة نفسها في مصر.
ظلت هذه واحدة من الثغرات التي نفذت منها الحركة الإسلامية في السودان لتكريس الشروخ القديمة في العلاقة بين الخرطوم والقاهرة. وتعلم أن تكاتف المؤسسة العسكرية في البلدين بدون أفكار أيديولوجية يمثل معضلة أمام الأحزاب السياسية التابعة لها، والقيادات الإسلامية التي تتمركز في السودان، وبالتالي تسليط الأضواء على الجميع، والحض على التعجيل بمحاكمتهم ومعاقبتهم وطردهم، فضلا عن تسليم الأجانب منهم، وثمة شريحة كبيرة بينهم من المصريين المطلوبين على ذمة قضايا جنائية.
يبدو أن عوامل التغذية الإعلامية والسياسية التي قام بها نظام الخرطوم في عهد البشير على مدار ثلاثة عقود، حققت أهدافها وسط فئة من المواطنين. فلم يعد النفور يأتي من جانب المنتمين إلى أحزاب إسلامية في السودان، فقد امتد إلى أخرى مدنية وشرائح مهنية واجتماعية لا تعلم الكثير عن علاقة مصر ببلدهم، لكنها تنحاز تلقائيا ضدها.
إذا كان قطاع عريض من الأحزاب المدنية والقوى المجتمعية يتخذ موقفا قاتما أو رماديا من القاهرة، لماذا لم يتأثر هؤلاء بالتحركات الإيجابية للحكومة المصرية، وتمعنوا في خطابها الذي ركز على أهمية الثورة والتغيير ووحدة البلاد واستقلال القرار وحق الشعب في اختيار طريقه السياسي؟ لماذا تستمر الهواجس، والمفروض أن يتبدد معظمها مع سقوط نظام البشير؟
خطورة هذه النوعية من الأسئلة في انعكاسها على شكل العلاقة بين الدولتين، مع انتظار ملفات شائكة تستوجب التعامل معها بصراحة، فأي خلل سوف يساهم في وقف التوجه نحو اللجوء إلى المرونة كفريضة غائبة ولا يقود إلى تخطي جبل من الأزمات.
وتخرج من رحم هذه الأسئلة إجابات ضمنية كبيرة، تفرض القراءة الهادئة والموضوعية، مع تحذيرات أطلقتها دوائر متعددة، هي بمثابة ناقوس خطر، لأن التوتر أو استئناف التصعيد بين القاهرة والخرطوم تستفيد منه قوى لا تريد للبلدين أن تقوم لهما قائمة، وترى أن توطيد العلاقات يقود إلى تقليص المنابع التي تتشرب منها جماعة الإخوان أو “الكيزان”، كما تسمى في السودان، التي تتجه إلى الكمون مؤقتا استعدادا للتعامل مع المعطيات التي تفرزها المرحلة الجديدة، وبموجبها تتحدد التوجهات.
لم يتوقف خطاب التشكيك في مصر، وهي تتصرف سياسيا بما يخدم مصلحة الشعب السوداني، وتضبط موازينها بما يتماشى مع الثورة وتجلياتها في الخرطوم، ما يعني أن هناك فجوة راسخة في العلاقة، وحُكما مسبقا عليها من المواطنين، بصرف النظر عن الممارسات التي تقوم بها القاهرة مع الخرطوم حاليا، بالتالي فأي تصرف جاد تقوم به السلطة الجديدة لن يجلب معه نتائج على الأرض، لأن المجلس السيادي والحكومة سيكونان حريصين على الاستجابة لنبض الشارع، على الأقل خلال الفترة الأولى التي يغلب عليها جس النبض.
يميل الحراك الثوري العام إلى عدم مفارقة عقدة ورؤية استعلائية قديمة، تزعم أن مصر تطمع في خيرات السودان، نابعة من الإشكالية الحاكمة للعلاقة الأزلية بين الاحتلال والمحتل، والاستعمار والمستعمر. ولن يكون من المفيد تكرار ما سبق أن قاله آخرون حول ماهية الأزمة، لكن من الضروري أن يتماشى هذا التحليل مع الواقع ليتمكن من تفسير جوانب مهمة في المشهد الراهن.
من طالع وجوه الكثير من السودانيين المقيمين في مصر، وجد نظرة عدم رضا خلال حكم البشير. لم تتبدل هذه النظرة تقريبا بعد رحيله عن السلطة. ولم يتأثروا بكل المواقف الرسمية والشعبية المتعاطفة معهم في مصر، مع التسليم بتغير الدوافع. فإذا كانت الأولى لها امتدادات ماضوية، يختلط فيها العاطفي بالمادي، فإن الثانية آنية ولها علاقة بالتصور المستقبلي الذي يسعى إليه السودانيون لتكون بلادهم عليه.
يريدون حكومة مدنية خالصة، لا علاقة لها بالعسكريين والإسلاميين، وإفساح المجال تماما للحريات، وتغليب المواطنة على غيرها. وهي الخلطة التي يرون فيها إنقاذ السودان من التخبط وإدمان الفشل على مدار عشرات السنين، في وقت يبدو شعورهم ثابتا من أن النموذج المصري الحالي لا يناسب تطلعاتهم، ويعملون جاهدين على عدم محاكاته.
بغض النظر عن خصوصية كل دولة، وما يرتضيه أو يرفضه شعبها، فقطاع كبير من السودانيين تتملكهم مخاوف من كل مقاربة مصرية، حتى لو كانت نافعة في شقها الأمني والاقتصادي. يعتبرونها فخا لجرهم إلى تكرار تجربة سياسية قاتمة بالنسبة لهم. هم شعب استطاع الحياة وسط التوترات والصراعات، وعاش طويلا على حد الكفاف، والسياسة أمنهم وأمانهم وطعامهم وشرابهم.
تفضي هذه النتيجة إلى وضع سد منيع أمام القاهرة في التقارب مع الخرطوم، وتؤثر على إمكانية التفاهم في القضايا الدقيقة ذات الصبغة الوطنية، وربما تدفع إلى تبني أفكار مضرة أو محايدة لتأكيد استقلال سياسة السودان الجديد عن مصر.
لعل القبول الشعبي والرسمي لرئيس وزراء إثيوبيا ودوره القوي في الاتفاق الأخير، يوحي بعدم حدوث تغير كبير في موقف الخرطوم من ملف سد النهضة مثلا، إذا انطلقت المفاوضات المتجمدة، ولم تحدث تحولات في حسابات الدول الثلاث على أساس مبدأ عدم الإضرار بمصالح مصر المائية.
تتطلب الحالة الملتبسة التعامل معها من قبل القاهرة والخرطوم بمرونة، وطرح مبادرات خلاقة لتضييق الفجوة. ويقع على الحكومة المصرية الجانب الكبير منها، لمنع إحراج السلطة الجديدة في السودان التي يرى مشاركون فيها من قوى الحرية والتغيير أن مستقبلهم سوف يكون أسعد حالا بالاتجاه نحو الجنوب، وأن الاستدارة القوية إليه خيارهم الإستراتيجي.
وآية ذلك الارتياح والتجاوب الواضح مع الوساطة الأفريقية الإثيوبية، ما يؤكد أن الهوى السياسي والاقتصادي والأمني قد يكون بعيدا عن الشمال. ولذلك مرجح أن يحدد السودان بوصلته النهائية تجاه الفضاء الذي سوف يحقق له المكاسب دون عواطف ومشاعر.