حالة إنكار تتلبس برئيس الحكومة الإثيوبية
محمد أبو الفضل
لم يستفد رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد من دروس التاريخ في بلاده والتجارب التي مر بها غيره من القادة والزعماء في أفريقيا، فلا يزال الرجل تتلبسه حالة إنكار للواقع الذي تمر به إثيوبيا، فمع أن خصمه الرئيسي جبهة تحرير تيغراي حققت انتصارات عسكرية لافتة ونجحت في نسج تحالفات واسعة مع قوميات أخرى، غير أنه يصر على تقزيم هذا التفوق وعدم الاعتراف بتداعياته.
ينكر آبي أحمد أن موازين القوى بدأت تبتعد عنه داخليا، ولا يعترف أن الموقف الدولي بدأ ينسحب بعيدا عنه، ويتصرف كأنه يمسك زمام الحل والعقد، مع أن خيوط اللعبة العسكرية والسياسية تسربت أجزاء كبيرة منها من بين يديه تدريجيا، ما منح منافسيه فرصة لزيادة ضغوطهم عليه.
قدم وعودا براقة على مستوى التقدم الذي وعد به ووجد نتائج سلبية تؤكد أنه لم يكن دقيقا في تقديراته السياسية ومؤهلاته الشخصية، أو أنه كان يعلم حدود أحلامه ويخدع مواطنيه، فقد جاء على حصان أبيض كمنقذ لإثيوبيا من الفوضى التي أوشكت على الدخول فيها وإذ به يوشك أن يتسبب في فوضى أشد قتامة.
امتلك طموحات بلا سقف، وبالغ في تصوراته بشأن توفير الأمن والاستقرار والوصول إلى دولة الرفاهية التي استمد منها الحزب الذي شكله واعتبره عربونا سياسيا يعكس قدرته الكبيرة على تغيير وجه إثيوبيا، فالازدهار أو الرخاء الذي سمي به الحزب وجاء على أنقاض تحالف الشعوب الإثيوبية الحاكم يقود البلاد إلى الخراب.
أفضى إنكار آبي أحمد للحقائق على الأرض إلى تجاهل توطيد التحالفات المحلية على أسس وطنية والانخراط في أخرى خارجية، وهو دليل على أن رهاناته انصبت على تطوير روابطه الإقليمية، فوقع اتفاقية سلام مع إريتريا قادته إلى توطيد علاقاته مع رئيسها أسياس أفورقي الذي شاركه الحرب على إقليم تيغراي.
مد بصره إلى الصومال في محاولة لاستغلال الفراغ الذي يعاني منه منذ سنوات، وسعى لاستمالة رئيسه محمد عبدالله فرماجو لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية المؤجلة، دقت جرس إنذار بأن الرجل يريد أن يكون رجل شرق أفريقيا القوي، غير أن التطورات الأخيرة ربما تجعله رجلها المريض.
بالغ في خصومته مع السودان ولم يعترف بأن أراضي الفشقة محتلة من قبل عصابات إثيوبية، وتبنى خطابا زاعقا لإرضاء جماعة الأمهرا التي أصبحت ركيزة يستند عليها في مواجهة خصومه، معتقدا أن الاعتماد عليها يكفي لردع تيغراي، إلى أن فوجئ باختلاط الأوراق بصورة قد تجرفه معها العمليات العسكرية الأخيرة في طريقها.
وبالغ أيضا في إدارته المتعنتة لملف سد النهضة مع مصر، ودخل في معادلة صفرية، فإما إقامة السد وفقا للقواعد التي يريدها أو قلب الطاولة على القاهرة، مستفيدا من الخلل في توازنات بعض القوى الإقليمية والدولية ونجح في صياغة منظومة من العلاقات حالت دون رضوخه لتقديم تنازلات في الأزمة.
لم تسعفه ورقة سد النهضة في الحشد الوطني الذي أراده، ولم تمكنه الوعود التي قطعها على نفسه من أن يكون المشروع مدخلا لتغيير حياة الإثيوبيين، فلا أحد يعلم حجم ما تم من إنجازات في أجواء تخيم عليها الحرب في اتجاهات مختلفة.
منعه الإنكار المستمر من تقديم معلومات دقيقة حول ما وصل إليه العمل في السد، ومنعه أيضا من تقديم كشف حساب بما تحقق وما لم يتحقق حتى الآن، فقد ترك الصورة غائمة كي تتسنى له العودة إليها متى أراد.
غابت سردية السد الوردية عن الجدل الداخلي في خضم الضجيج الذي أفضت إليه تطورات الحرب مع تيغراي، وخرج من المعادلة التي يمكن أن يعتمد عليها في خصومته معهم، لأنه لن يستطع المزايدة عليهم، فزعيم جبهة تيغراي ميلس زيناوي هو الذي وضع اللبنة الأساسية لهذا المشروع قبل نحو عشر سنوات.
هل تغير آبي أحمد أم هذه هي حقيقته التي لم يعرفها الكثيرون، وأدت إلى منحه جائزة نوبل للسلام؟ وهل كان العالم الذي رفعه إلى عنان السماء كرجل سلام في الإقليم مخدوعا فيه أم هو الذي تغير عندما شاهد الواقع وتعامل مع تفاصيله الصعبة؟
بالقطع لم يتغير الرجل، غير أن الأحداث التي مر بها كشفت معدنه السياسي، فقد حذر مقربون مبكرا من أنه دكتاتور في زي ديمقراطي، وأن طموحاته الإقليمية بلا حدود، لكن الغرب الذي منحه غطاء نوبل كان مغرما به في ظل بحثه عن نموذج أفريقي يعكس قيمه السياسية، يمكن التعويل عليه في تغيير وجه منطقة من أكثر المناطق جذبا وصراعا للقوى الدولية.
صعد آبي أحمد إلى حافة الهاوية عندما ضرب منظومة القيم الغربية في مقتل بانتهاكاته المتكررة في إقليم تيغراي، واستخدامه المفرط للعنف، وعدم اقتناعه بأن إثيوبيا تعيش على بركان هش من القوميات والجماعات والعرقيات، وهو ما يفرض عليه قدرا من المرونة والتنازلات السياسية، لأن إنكاره سوف يقوده إلى سقوط مريع.
لعب رئيس الحكومة الإثيوبية على وتر التناقضات الإقليمية والدولية، واعتقد أنه يمتلك خبرة في إدارتها وتوظيفها بالصورة التي تمكنه من تثبيت أقدامه في السلطة سنوات طويلة، وتجاهل أن من يثبت أو يعزل هو القبول به والرضاء عنه، ففرط في الليونة التي جاء بها ولجأ للقبضة الحديدية التي لم تسعفه في السيطرة على مقاليد الأمور.
خسر جزءا كبيرا من ركائزه في الداخل والخارج، وفقد رهاناته على القوى التي ارتكن عليها وكان متيقنا أنها كفيلة بحمايته من السقوط، ويجدف بمجاديف واهنة في الحرب التي تتسع رقعتها وقد تجعله يعلن استسلامه أو يواصل المعركة حتى نهايتها.
كرر آبي أحمد فصولا عديدة في مشاهد الحرب السابقة في أواخر أيام الرئيس الراحل منغستو هايلا ماريام، وقد يكرر النتيجة نفسها حيث دخلت جبهة تحرير تيغراي والجماعات المتحالفة معها أديس أبابا عام 1991، ولم يجد منغستو من ينقذه في الخارج بعد أن أحرق كل أوراقه في الداخل.
من المتوقع أن يواجه آبي أحمد سيناريو شبيها بمنغستو ما لم يسرع في تقديم تنازلات واضحة لخصومه وينتهز فرصة أن قوى غربية كبرى لا تريد لإثيوبيا الانهيار، لأن تصميمه على إنكار الواقع وما يحمله من تطورات ضده سوف يؤدي إلى غرقه وربما يغرق معه دولة تم الإعداد لها لتكون نموذجا واعدا في المنطقة.