حان الوقت لفتح ملفات اتحاد الشغل في تونس: المحاسبة أولى خطوات التصحيح

مختار الدبابي

الاعتصام الذي يلوّح به عدد من قيادات اتحاد الشغل في تونس ضد قيادة المنظمة، التي يقودها الأمين العام نورالدين الطبوبي رسالة واضحة تشير إلى أن الاتحاد بصورته الحالية لم يعد ملائما ولا مقبولا لدى قياداته، فكيف لدى السلطة، ويجب أن يتغير. فالتغيير لا يعني الاستبدال، ولكن الإصلاح الجذري لأداء المنظمة لتكون قادرة على لعب الدور النقابي المهم في المستقبل. كما أنه يعني المحاسبة وتحميل كل طرف مسؤولياته وبناء مرحلة جديدة على الوضوح.

ولا يمكن إصلاح المنظمة وتأمين التغيير داخلها من دون التخلص من أمراضها المزمنة، والتي يعرفها البعيد والقريب، وأهمها أن الاتحاد واجهة سياسية لأحزاب ومجموعة أيديولوجية صغيرة لا تقدر على أن تظهر للعلن، وتريد أن تتحرك من وراء الستار بالركوب على مطالب القطاعات النقابية لتقول أنا موجودة، وهي تضعف وتتراجع في الوقت الذي تكون فيه السلطة السياسية قوية وتعاود الظهور في حال كانت السلطة ضعيفة أو مرتبكة كما حصل ما بعد ثورة 2011.

ومن أهم مقومات العشرية التي تلت ثورة 2011 التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم هي توظيف الاتحاد في الصراع السياسي بين الخصوم. صحيح أن هذا التوظيف حقق نتيجة آنية من خلال إزاحة حركة النهضة الإسلامية عن الحكم، لكنه خلّف وضعا معقدا يصعب تجاوزه، من خلال صنع بعبع اتحاد الشغل، والذي تعبر عنه مقولة أنضاره “الاتحاد أقوى قوة في البلاد“.

استفاد الاتحاد من صراع سياسي كان يمكن أن يتم حسمه بأشكال أخرى ليصعد إلى الواجهة كحزب سياسي قوي، فهو من ناحية شريك في منافع الحكم من خلال الحصول على كوتا من التعيينات في المؤسسات الكبرى وبعض الوزراء في الحقائب الاجتماعية، ومن ناحية أخرى هو حزب معارض يلوّح بالإضرابات لدفع الحكومات المرتبكة إلى تقديم المزيد من التنازلات.

ومع إجراءات 25 يوليو 2021 وإمساك الرئيس قيس سعيد بصلاحياته كاملة، وجد الاتحاد أن الوضع اختلف كليا بوجود شخصية قوية في السلطة لا تقبل المساومة ولا الخلط في المهام بين النقابي والسياسي.

حاولت قيادة المنظمة النقابية أن تبحث عن مداخل للخروج من المربع الذي حصرها فيه قيس سعيد، مربع العمل النقابي ببعده الاجتماعي التفاوضي مع المؤسسات الحكومية وليس مع السلطة. قدمت أفكارا للفت الأنظار من نوع خارطة طريق لمواجهة الأزمة الاقتصادية، أو دعم مسار السلطة في رفض التعاون المشروط مع صندوق النقد، ولاحقا أطلقت تصريحات تلوّح بالتصعيد. لكن السلطة أغلقت كل الأبواب، وباتت قيادة الاتحاد التي دأبت على خطف الأضواء في وضع يتسم بالتهميش والإهمال.

وأنتج هذا الوضع صدمة كبيرة داخل المنظمة النقابية. فالأمر ليس سهلا لأنه يحوّل الاتحاد من قوة كبيرة إلى رقم بلا دور ولا تأثير، وهو ما لم يتحمّله النقابيون من مختلف مستوياتهم بعد أن كانوا يأمرون وينهون ويفرضون الشروط على الكبير والصغير. وقادت هذه الخسارات إلى توجيه الصراع إلى الداخل. شحنة التصعيد والاستعراض حين لم تجد لها مكانا في الخارج ارتدّت إلى الداخل لتعصف بالتماسك الكبير بين مكونات متنافرة فكريا وسياسيا ومصلحيا.

وتوجه الصراع إلى اتجاهين اثنين كبيرين، الأول هيكلي من خلال البحث عن إحياء “ديمقراطية” المنظمة لتغيير القيادة الحالية بعد أن نجح الطبوبي وحلفاؤه في عقد مؤتمر استثنائي للتمديد النقابي القيادي وقوبل بمعارضة محدودة جدا. الآن تتسع دائرة الصراع لتميل إلى شق المناوئين بعد أن التحق بهم عدد من القيادات الحالية ممن يلوّحون بالاعتصام داخل الاتحاد للضغط على قيادته ودفعها إلى التنازل في سياق حسابات حزبية وقطاعية دقيقة.

لكن حتى لو أفضى الضغط إلى إقالة أو استقالة القيادة الحالية بالضغط المباشر أو عبر تخريجة لعقد مؤتمر، فلا شيء ينبئ بأن الأمر سيتغير داخل المنظمة على المدى القريب والمتوسط. ما تغير هو موازين القوى، لكن تحكيم اللعبة السياسية في رسم توازنات الاتحاد ما يزال هو نفسه.

الاتجاه الأول يخص المواقف النقابية تجاه الوضع الاجتماعي، ويوجد هنا توجهان كبيران، الأول يريد الاستمرار في التهدئة الاجتماعية حتى من دون فتح قنوات التواصل مع السلطة، وهذا تيار محدود ويمثله بعض القوميين واليساريين الذين ساندوا مسار 25 يوليو 2021. وتقلص هذا التيار مع مرور الوقت بعد فشل رموزه ومجموعاته في أن تجد مقابلا لموقفها الداعم لقيس سعيد ممن اعتقدوا أنهم سيكونون رقما مهما في المسار و”حزاما” سياسيا للرئيس.

الاتجاه الثاني يدفع إلى التصعيد، لكنه بلا أجنحة بعد خسارة ثقة القطاعات الوازنة في المنظمة التي لم تعهد تكترث لدعوات التصعيد النقابية. السنوات الماضية جعلت النقابات المحلية والمنتسبين إليها على قناعة بأن وراء كل تصعيد أجندة سياسية للقيادة. وكثيرا ما حققت القيادة أهدافها بعد تحريك قطاعات مهمة مثل التعليم أو الصحة ودون أن تجلب لهم مكاسب كما جاء في الوعود المرفوعة.

وفي مقابل هذين الاتجاهين، يوجد تيار قاعدي غالب يطالب بإعادة بناء المنظمة من جديد على أسس صلبة من خلال تفكيك منظومة السيطرة الحزبية وتصويب إستراتيجية المنظمة في اتجاه الدفاع عن مصالح العمال عبر الحوار مع السلطة وليس الصدام معها، وأن النقابات ليست أحزابا ولا حركات ثورية.

ويطالب الكثير من النشطاء النقابيين الغاضبين من أداء القيادة الحالية للاتحاد إلى فتح باب المحاسبة واسعا عن طريق هيئة المحاسبات، مثلما جرى في محاسبة الأحزاب، ومعرفة مصادر الأموال وطرق صرفها بشكل واضح وإدانة من تجاوز وتنزيه من لم يتورط في أيّ تجاوزات.

ومن الطبيعي أن المحاسبة تحتاج إلى أن تتم الرقابة المالية والقضائية دون تمييز ولا حسابات مسبقة، فالاتحاد تتم معاملته كأيّ منظمة أو جمعية أو هيئة محلية مطالبة بتقديم كشوف عن وضعها المالي وتوفير المستندات الضرورية. ليس هناك منظمة أيّا كانت فوق الدولة ولا تخضع لأدوات الرقابة. والأمر نفسه يتعلق بطرق التسيير والانتخاب والإشراف على صياغة القوانين الداخلية والتعديلات التي تجريها هياكل الاتحاد لتكون متماشية مع قوانين البلاد وتقاليدها. والأمر ينسحب على الجميع أحزابا ومنظمات مهما كبر وزنها أو قل.

لكن الدعوة إلى المحاسبة لا تعني أبدا تدجين اتحاد الشغل ووضعه في جيب السلطة أو حله أو خلق بدائل عنه. من مصلحة السلطة، كما مصلحة البلاد وكذلك العمال والموظفين، أن توجد منظمة تتسم بالشفافية المطلقة وتحتكم إلى تقاليد داخلية. وإذا فشلت القيادة الحالية فلا يعني أن المنظمة فشلت أو أن العمل النقابي فشل.

ليس من مصلحة تونس ولا دولتها ولا رئيسها أن يتبخر الاتحاد كما حدث لمنظمات شبيهة في العالم. وبقاؤه وتصويب أدائه عاملان مساعدان للتوازن الاجتماعي ولتصويب أداء السلطة نفسها ومنعها من وضع اليد على المؤسسات وفرض تصوراتها الاجتماعية.

لكن المخاوف من هيمنة السلطة لا يمكن أن تبرّر بقاء الاتحاد على حاله بعد أن أطلق فوضى كبيرة وأمعن في الخلط بين الأشياء ونصّب نفسه قاضيا ومستشارا ومحاميا، بل وشرطيا على الكثير من مفاصل العمل والسياسة.

حان وقت محاسبة الاتحاد ومسيّريه، وهذا يصب في صالح المنظمة ويحميها من دعوات التهميش ويقطع الطريق على محاولات الاختراق ووضع اليد من السلطة أو من الأحزاب كبيرها وصغيرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى