حرب غزة فى نادى الجزيرة!
نافست حرب غزة الخامسة إلى حد كبير اهتمامات المصريين والعرب بمناسبات شهر رمضان المعظم وعيد الفطر المبارك بكل ما تحفل به من خصائص تراثية وثقافية، وغذائية أيضًا. فيمَن أعرفهم لم يتوقف الاهتمام بصورة يومية عن متابعة الأحداث، التى لم تكف عن تقديم أشكال من الدراما والتراجيديا المؤلمة. كان هناك الاهتمام بالحرب باعتبارها حدثًا استثنائيًّا فى التاريخ البشرى، يخرج عن المعتاد والمألوف الذى يكون الأصل فيه هو السلام والوئام والاستقرار. الاستثناء هنا بدأ بالمفاجأة الكبرى لهجوم ٧ أكتوبر الذى قامت به حماس؛ وما ظهر من رد فعل إسرائيلى تجاوز كل آداب الحرب والقانون الدولى؛ وما كان من نتيجة اختلطت فيها ملامح وذكريات النكبة والمحرقة والحروب العربية الإسرائيلية. نادرًا ما كان هناك ذكر لعملية السلام، وبشكل عام عاد الصراع التاريخى إلى أولوياته ذات الطبيعة الوجودية، والمعادلات الصفرية، والمحاولات المتعثرة للخروج من نار الحرب إلى لطف التهدئة. مرت ستة شهور كاملة على الحرب فى حالة استثنائية من طبائع الحروب الفلسطينية والعربية الإسرائيلية، التى كان ديدنها فترات قصيرة من العنف والاستغاثة والدبلوماسية، ثم الخروج إلى الاستعداد لحرب قادمة. بالطبع شهدت المنطقة،
والقاهرة فى قلبها، كثيرًا من المنتديات التى تتابع الحرب، وتقوم بتقدير منعطفاتها؛ أما الإعلام فقد غطت الحرب على كافة المتغيرات الأخرى. ولم تخذل الحرب المتفرجين والمتحاورين فى تقديم وجبات غير متكررة للأحداث من أول الرد على مفاجأة ٧ أكتوبر، ثم إعلان نتنياهو الحرب حتى النصر الكامل والمطلق، وعمليات القصف الجوى التى أعقبها الهجوم البرى، الذى أخذ مراحل الشمال ثم الوسط واستقر الأمر فى الجنوب مع وعد ووعيد بالهجوم على رفح. لم يظل المشهد بكاميراته محصورًا فى الكادر الصغير لقطاع غزة، وإنما امتد إلى سلسلة من الحروب على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وتلك السورية الإسرائيلية، وأحيانًا جاءت الغارات من العراق على مواقع أمريكية، ولم تكن المفاجأة كبيرة حينما بدأ «الحوثيون» الضرب بالمسيرات والصواريخ للسفن، التى تعبر البحر الأحمر فى حرب بات لها تأثير على الملاحة والتجارة الدولية.
وسط ذلك كله جاءتنى الدعوة الكريمة من معالى المستشار عادل عبدالباقى، وزير التنمية الإدارية الأسبق، رئيس اللجنة الثقافية بنادى الجزيرة، لتقديم محاضرة عن حرب غزة الخامسة فى الصالون الاجتماعى للنادى العريق. وعندما حل الموعد فى مساء الثلاثاء ٢٣ إبريل لم تخذل الحرب المجموعة الكريمة التى حضرت فى أن يكون هناك أمر جلل يذكر به هذا اللقاء، وهو أن تعيش الجماعة حالة من الغموض المتوتر كثير الهواجس عندما قامت إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية فى دمشق، وما نجم عنها من مقتل ٧ عسكريين إيرانيين من الحرس الثورى الإيرانى، منهم اثنان من الجنرالات، أحدهما قائد كبير فى فيلق القدس، «محمد رضا زاهدى». الغارة باتت نقطة فارقة فى سياق الحرب، حيث بات الانتظار المتوجس يقوم على تصريحات إيرانية بأن الرد حتمى؛ وبات السؤال هو: كيف سيكون التصعيد؟. وحينما انعقدت الندوة فإن الإجراء الإيرانى تم اتخاذه عن طريق ما هو معلوم من مسيرات وصواريخ، فدخل الحدث التاريخ، وبات السؤال هو: ما الذى سوف يفعله الإسرائيليون؟. أصبح الفيلم أكثر إثارة، والخوف من بحار دماء ليس بعيدًا عن التوقعات؛ وفى الواقع كنت أتمنى زيارة النادى الذى لم أكن يومًا من أعضائه فى مناسبة أقل فزعًا، أو أكون محظوظًا فى أمر أقل توترًا.
بدأت الندوة كما هو محدد فى الساعة السابعة تمامًا فى حضور كافٍ للعدد الموجود من المقاعد الوثيرة، والذين يمثلون شريحة اجتماعية أعلى من الوسطى، والمؤهلة بخبرات دبلوماسية ومهنية مختلفة بين الإدارة والطب والهندسة والدبلوماسية. المحاضرة لم تخرج كثيرًا عما أنشره فى هذا المقام ومنصات أخرى عن الخصائص الفريدة للحرب الجارية بعد وضعها فى الإطار العام للحروب فى العالم، والتى تمثل فصلًا من الفصول الدموية للتاريخ الإنسانى. جرى التأكيد على أن «الحرب» جزء من الممارسات التى عرفتها العلاقات الدولية، خاصة تلك التى شهدها الحضور بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من أول الحرب الكورية وحتى الحرب الأوكرانية. كما حدث التأكيد على ما أدى إليه «الربيع العربى» من انقسام فى الإقليم ما بين مجموعة الراديكالية الإسلامية بشكليها الشيعى والسنى فى ناحية؛ ومجموعة الدول الإصلاحية الساعية نحو البناء والتعمير والتنمية، ومن ثَمَّ الساعية نحو الاستقرار الإقليمى بما فيها إنقاذ الدول التى تحول فيها «الربيع» إلى حروب أهلية مع حل الصراع العربى الإسرائيلى من خلال «السلام الإبراهيمى» أو ما شابهها من اتفاقيات تعطى فرصة لحل القضية الفلسطينية. ضمن هذه المعادلة جاء هجوم ٧ أكتوبر فى إطار إفساد الاقتراب بين هذه المجموعة من الدول من إسرائيل من خلال التطبيع السعودى الإسرائيلى المصاحب باتفاقيات أمنية ونووية بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
النقاش الذى جرى بعد ذلك كان صعبًا لأن المواقف فيها كان بها الكثير من اليقين رغم كل الظروف الملتبسة، وبعضها كان مفهومًا فى إدانة السلوكيات البربرية الإسرائيلية فى غزة واعتبار ما فعلته حماس عملًا من أعمال «المقاومة» ورد فعل لما فعلته إسرائيل خلال العقود الماضية بالشعب الفلسطينى. ولكن ما لم يكن قريبًا من النقاش هو كيف لمثل ذلك أن يقيم الدولة الفلسطينية المستقلة؟. كان تسجيل الموقف المبدئى أكثر أهمية من السياسة، التى تغير الواقع الفلسطينى التعيس الحالى إلى حقيقة إدارة دولة فلسطينية تستطيع المنافسة مع إسرائيل. أحيانًا كان التسليم كاملًا بأن أصل المسألة ليس إسرائيل بقدر ما هو الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأكثر من ذلك كانت المسألة العربية الإسرائيلية كلها مقفولة اعتمادًا على تصريحات وعبارات قالها هذا السياسى الإسرائيلى أو ذاك؛ أو أن المسألة كلها مسرحية، وأحيانًا تمثيلية توزع واشنطن أدوارها. كان هناك شك كبير فى حل الدولتين وتساؤلات عن حل الدولة الواحدة، ولكن الملامح توحى بأن كل الطرق مقطوعة، وكل السبل مستحيلة. كانت التجربة المصرية بكل ما فيها من غنى فى تغيير أوضاع احتلال سيناء تكرر فى ١٩٥٦ و١٩٦٧ ثم استمر من ١٩٦٧ إلى ١٩٨٢ لا تفيد كثيرًا فى نفخ روح القدرة على التغيير باستخدام مبادرات ووسائل لا تستبعد القوة، ولكن تُضاف إليها الدبلوماسية والسياسات الدولية.
فى لحظة من لحظات الندوة، بدا لى كما لو أن الحضور يتمنى أن ننقل الموضوع كله إلى مصر. المدخل كان عن تأثيرات الحرب عليها؛ ولكن كانت هناك أوجاع يُراد التعبير عنها. المصريون فى العادة لا يريدون البعد عن مصر، حتى ولو كانوا يريدون للمعادلة الفلسطينية الإسرائيلية أن تكون تمامًا لصالح الفلسطينيين، إلا أن ما يهم هو الحالة المصرية الآن وفى المستقبل القريب. فى نادى الجزيرة، حيث يُعتقد أن الأوضاع الاقتصادية أفضل حالًا، فإن الأزمة الاقتصادية لا تقل تأثيراتها السلبية عما هى عليه فى مستويات اجتماعية أخرى.