حلال المنظومة الغربية وحرامها
عبد العزيز الخميس
الأزمة الروسية الأوكرانية، الأخيرة، وبقدر خطورة مآلاتها على العالم وعلى منطقة الشرق الأوسط، فإنها تمثل أيضا مادة سياسية خصبة لاستلهام دروس كثيرة إن قُورنتْ أو استخرج منها أوجه شبه كثيرة مع أحداث عمت العالم العربي منذ سنوات قليلة.
لن يكون مفيدا سرد دواعي وأطوار التدخل الروسي في أوكرانيا ومآلاته، فهذا ما دأبت وسائل الإعلام على استعراضه بإسهاب منذ أسبوع. ما يهمنا في زاوية النظر التي نحن بصددها أن روسيا شرعت منذ الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي في شن هجوم عسكري على أوكرانيا، قوبلَ بذهاب الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة واليابان والولايات المتحدة إلى تنفيذ مجموعة من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية والرياضية على موسكو. كانت تلك العقوبات الغربية ترجمة لإحساس الغرب بالضرر من الخطوة الروسية في أوكرانيا.
هبّ المجتمع الدولي لنجدة أوكرانيا، وقرأ إحداثيات الخطوة الروسية بطريقة أسرع مما تخيلها الأوكرانيون أنفسهم، وتفاديا لطرح السؤال المعتاد: هل كان الغرب سيتداعى بنفس الحماسة لو كان مسرح الوقائع خارج أوروبا، ولو لم يكن الغازي روسيّا وضحية الغزو أوكرانية، فإن السؤال الأكثر دقة هو: ألا توفر الهبة الغربية لنصرة أوكرانيا، باعتبار إحساس الغرب بالضرر من خطوة فلاديمير بوتن- المزيد من الواجهة والمشروعية لتحرك التحالف العربي ضد قطر، في 5 يونيو 2017، عندما أحس بخطوة ما تحيكه الدوحة لشقيقاتها التي دأبت على تجاوز هناتها فبادلتها قطر بالمؤامرات والدسائس؟
ثم إن التدخل العسكري الروسي الذي حصل عندما موسكو استشعرت خطر تقارب كييف مع حلف الناتو وأوروبا، ألا يوفر بدوره مشروعية أخرى لتحرك التحالف العربي، الذي كان سلميا، واكتفى بالمقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية، ولم يفكر البتة في تحريك قطع عسكرية تتجه صوب الدوحة يومذاك.
يذكرُ أن التحالف العربي، المتكون أساسا من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين فضلا عن أقطار عربية أخرى، ضجّ طيلة السنوات السابقة لقرار المقاطعة من تصرفات قطر، ووجه احتجاجات كثيرة حرص التحالف العربي على أن تظل في مربع “العائلة” العربية الخليجية، لكن تمادي الدوحة في غيها الذي وصل درجة الإضرار باللحمة الوطنية وتهديد الأنظمة المستقرة والراسخة في المنطقة العربية، أوصل دول التحالف إلى قرار المقاطعة. دعمت الدوحة جماعات متطرفة كثيرة، مها جماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الحوثية وتنظيم داعش، كما لم ترَ ضيرا في أن تؤيد إيران في مساعيها التخريبية في الكثير من عواصم المنطقة العربية. واحتجت أقطار التحالف العربي وقتها على أن الدوحة عملت، صراحة، على زعزعة أمنها، وتجاسرت على تحريض المواطنين على حكوماتهم، من خلال الشحن الإعلامي وتزييف الحقائق والدعم المالي، مثلما حصل في مصر وفي البحرين.
احتجت الدوحة، آنذاك، على المقاطعة وأهملت أسبابها ودواعيها، وكان صمت الغرب على الفاعل الرئيس ضربا من التشجيع الهامس، واستعار البعض مفردات الوساطة في قضية لا تقبل التجزئة، بل كان حريا بالموقف أن يذهب إلى تفحص الأسباب والدواعي وهي كثيرة وماثلة في وقائع العرب في تلك السنوات. ورغم إصرار التحالف العربي على انتهاج موقف سلمي لا مكان فيه للبنادق والطلقات، إلا أن منابر الدوحة الإعلامية والسياسية اعتبرت الأمر “عدوانا”.
ما يجري اليوم في مدن أوكرانيا يذكّر بأحداث تلك السنوات. تحركت موسكو عندما استشعرت خطرا يداهمُ حدودها، بل إن الخطر في عرف روسيا طال الحدود التاريخية للاتحاد السوفييتي القديم الذي أفل منذ العام 1991. وهبت المنظومة الغربية، مجتمعة، عندما قدّرت أن موسكو تهدد مصالحها في أوكرانيا. تقدمت الجحافل العسكرية الروسية صوب كييف، وانتفضت المنظومة الغربية لتتلو قائمة عقوباتها على موسكو؛ أغلقت المجال الجوي على الطيران الروسي، وفصلت البنوك الروسية عن نظام سويفت الدولي للمدفوعات، ووضعت شخصيات روسية كثيرة على قائمة العقوبات، ووصل الأمر إلى استبعاد روسيا من المسابقات الرياضية.
كان التحرك الروسي تحركا عسكريا مبررا (وفق الموقف الروسي) بأن أوكرانيا تعتزم التحالف مع الغرب، ما يعني استدعاء المنظومة الغربية إلى الحديقة الخلفية لموسكو، وكان التحرك العربي في العام 2017 تحركا سلميا (واعيا ومدروسا) رغم توفر كل قرائن تورط نظام الدوحة في التحالف مع كل التيارات الإرهابية لتهديد أركان بيوت خليجية آمنة.
المفارقة أن رئيس الوزراء القطري الأسبق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني تفاعل مع ما يجري بين روسيا وأوكرانيا ليدعو دول مجلس التعاون الخليجي إلى “إعادة النظر” في أوضاعها بمختلف المجالات، وقال “في عالمنا اليوم، فإن الدول لا بد أن تدرس أوضاعها ومستقبلها، وتقيم تحالفاتها على أسس علمية واستراتيجية بعيداً عن العواطف والظروف الآنية ومن دون ارتجال واستعجال. ولعل هذا الدرب هو ما ينبغي لمجلس التعاون أن يتنبه له في ضوء تطورات الأوضاع في أوروبا واندلاع الحرب في أوكرانيا. وما يثيره ذلك من مخاوف ومخاطر تهدد العالم بأسره ومنطقتنا على رأسه”. تناسى حمد بن جاسم في “التقاطه” للدرس الروسي الأوكراني أن يعترف بأن بلاده لم تترك درب تآمر تجاه شقيقاتها إلا وسلكته، وتجاهل أن ما فعلته بلاده في تلك السنوات، ومازالت تواصله، لو حصل في فضاء جغرافي آخر، لأدى إلى مواقف مشابهة لما يسود اليوم أوروبا، لكن البيئة العربية الإسلامية، وعلاقات الإخوة والجوار هي التي حددت الموقف العربي وصاغت تفاصيله بأن ظل في مربع المواقف السلمية.
اشترط بوتن لوقف حربه على أوكرانيا؛ الاعتراف بالقرم كأرض روسية، وإعلان حياد كييف، ونزع سلاح الدولة الأوكرانية، وتخلي الحكومة الأوكرانية عن “نازيتها”، وقبل إعلانه شروطه لوقف الحرب كان قد وصف المجتمع الغربي بأسره، بـ”إمبراطورية الكذب”. وكان التحالف العربي قد وضع 13 شرطا تهدف كلها لحماية أمنها وسيادتها. عدد الشروط العربية كان أكبر من الشروط الروسية، لكنها كانت أقل صرامة وأقل تهديدا لمستقبل الدوحة، فضلا عن كون دول التحالف العربي لم ترسل دباباتها لشوارع الدوحة. وما يمكن التقاطه من الدرس القادم من أوكرانيا هو أولا أن العالم بأسره، والمنظومة الغربية على رأسه، يمارس ازدواجية معايير مريعة، تقيس المواقف بمسطرة معوجّة، ما جعل متابعين كثر في العالم يستحضرون اليوم قصة الغزو الأميركي للعراق الذي قام على مبررات كاذبة، ثم تسليمه إلى إيران وميليشياتها المتطرفة.
العالم الذي كذب لتبرير غزو العراق لا يضيره أن يكذب اليوم في التعامل مع القضية الروسية الأوكرانية. والكذب هنا مشترك ومتبادل بين طرفي المنازلة. ولذلك فإن ما اعتبرَ “حراما” في المواقف العربية من الدوحة مثلا، يصبح حلالا في المواقف الروسية أو الغربية، وما بين حلال المنظومة الغربية وحرامها تنجو قطر وإيران من المحاسبة وتواصل عربدتها، مسربة عدوانها وإرهاب بيادقها من ثغرات الخلل الخطير الذي يعتري الفكر الغربي ومقاييسه. والواضح أن إمبراطورية الكذب لا تشمل فقط المنظومة الغربية، بل إن خارطتها أوسع مما رسمها بوتن.