خريف الإخوان في تونس
تونس كانت المحطة الأولى لما عرف بثورات الربيع العربي، التي استفادت منها جماعة الإخوان، المصنفة في العديد من الدول العربية جماعة إرهابية، وهي بمثابة المحطة الأهم حاليًا في خريف التنظيم.
لم يتم حل حركة النهضة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان في تونس، حتى الآن، لكن تتم محاكمة قادتها على خلفية جرائم عنف وتحريض وفق أدلة ثبوتية، ما زال بعضها متداولاً في أروقة المحاكم.
وتعرض التنظيم لمحاكمتين؛ إحداهما شعبية والأخرى قضائية، كلتاهما أدانت قادة الحركة متهمة إياهم بالعبث بأمن الوطن وسلامه الداخلي، مما دفع القيادة السياسية إلى سرعة التدخل بهدف الحفاظ على كيان الدولة.
راشد الغنوشي، أحد قادة الإخوان المسلمين، وأحد أبرز مفكريها، إلا أنه رغم قدرته على صياغة الأفكار والإدلاء بالتصريحات التي تحمل قدرًا من الدهاء، كان مباشرًا في التحريض على الدولة والتهديد بنشوب حرب أهلية، كما جاء في تسجيل مرئي مسرب مع قيادات من جبهة الخلاص الوطني، مما اضطر النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب لتوقيفه والتحقيق معه وإيداعه السجن.
في الحقيقة الغنوشي هو بين من أنتجوا أفكار العنف داخل الإخوان، فهو يبدو أنه قيادي متحرر داخل التنظيم، لكنه في الحقيقة لا يختلف عن بقية صقور التنظيم المنحازة لفكرة التغيير بالقوة، بل يعد أحد أهم المتشددين داخل التنظيم.
والغنوشي يُحب أن يُرى على أنه إصلاحي متفتح إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك، فهو قد تربى بين معسكرات المقاتلين في أفغانستان، بل كان محرضًا لهم من خلال خطبه.
وعاش الغنوشي في العاصمة البريطانية لندن قرابة 21 عامًا، وربما أثرت فيه حياة الأوروبيين فكونت عنده خليطًا من الأفكار التي شكلت وعيه في مرحلة النشأة.
ورغم أنه عاش وسط البريطانيين لسنوات طويلة؛ فهو لم يتخلَّ عن أفكار التنظيم، لكنه عمل على إعادة إنتاجها، بحيث تُناسب التحولات السياسية في المنطقة والعالم، وحتى تكون قادرة على الصمود والمواجهة.
ونحن نفرق هنا بين الأفكار التي تبدو متحررة تلك التي أنتجها من خلال 5 كتب وعشرات الدراسات والخطب والمقالات، وما بين إيمانه الراسخ بالفكرة المؤسسة للإخوان، وهنا كان خلاف الغنوشي على شكل إدارة التنظيم، فالرجل لم يختلف على الأفكار لكنّ خلافه كان مُنصبًا على شكل هذه الأفكار حتى لا يقلل من فرص اصطدام التنظيم.
ودعا الغنوشي ضمن ما أنتجه من أفكار إلى ضرورة الفصل بين العمل السياسي والدعوي داخل تنظيم الإخوان، مما جعله يصطدم بقادة التنظيم في مصر وبالأخص المرشد العام ومكتب إرشاده؛ الذين كانوا لا يرون مشكلة في أن يلبس الداعية لباس السياسي أو أن يستغل السياسي الدعوة لتحقيق طموحه السياسي.
وخلاف الغنوشي هنا مع قادة الإخوان في مصر ليس في استغلال الدين في الصراع السياسي، لكن في تحقيق ذلك بمواربة ربما لا تكشف أهداف الجماعة أمام الشعوب والنخب فتظل مرهونة بالتنظيم ومؤيدة لمشروعه!
سافر راشد الغنوشي إلى أفغانستان على خلفية الاجتياح الروسي في عام 1979، وشارك في القتال هناك، وكان يقوم بدور دعوي مرتبط بالتحريض على الجهاد، استمر عليه حتى بعد أن أصبح على قمة السلطة في تونس بعد عام 2011، وكان من ثمار هذا التحريض مقتل المعارضين محمد البراهمي وشكري بلعيد.
نسخة راشد الغنوشي لا تختلف عن بقية نسخ التنظيم التي تدعو للصدام مع الخصوم والمختلفين، فقد كان منتجًا للفتاوى العنيفة التي ألبسها لبس التحرر! فيمكن أن تلمحه في التحريض ضد المكونات السياسية المختلفة؛ فيتحمل مسؤولية الفوضى في عدد من البلدان العربية.
وإذا أضيفت تهمة جديدة لراشد الغنوشي، الذي جدد قاضي التحقيق قرارًا بإيداعه في السجن فهي التحريض؛ فالرجل قد تربى على أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، ومنهم استقى التشدد، ودعواته التحريضية هي انعكاس لما أنتجه من أفكار.
مسألة التغيير من أهم القضايا التي طرحها الغنوشي، فالرجل ينتمي إلى مدرسة عدم الصدام المباشر، فقد كان يميل إلى مدرسة حسن البنا منها إلى مدرسة سيد قطب؛ فكل منهما استقى أفكاره من الآخر، لكن هناك من يرى ضرورة الصدام المباشر وهناك من يرى تحقيق الأهداف دون صدام أو تلاشي عوامل المواجهة المباشرة، وهو ينتمي للمدرسة الأخيرة.
دعوة الغنوشي للحرب الأهلية واضحة وصريحة، فالرجل حرّض على هذه الحرب اعتقادًا منه أنه ما زال يمتلك عدة أسلحة للمواجهة، منها سلاح الحرب الأهلية التي لا يمكن للسلطة أن تُسيطر عليها، ولعله استدعى ما حدث بالجزائر من قبل جبهة الإنقاذ في العشرية السوداء مطلع عام 1992.
خطورة الغنوشي في إنتاجه لأفكار العنف، وخطورة العنف ليست في ممارسته لكن في تأصيله؛ فالحركة التي يقودها في تونس هي من رسمت خطوط المواجهة في المنطقة العربية والتي أنتجت في النهاية دولاً بلا سلطة أو سلطة تقتات على الفوضى مستغلين أوضاعًا سياسية مرت بها في السنوات العشر الأخيرة.
تعيش تونس خريفًا حالكًا بعد أن انكسرت شوكة الإسلام السياسي بداخله؛ هذا الانكسار بدأ بالثورة الشعبية والمطالبات الحقوقية حتى حقق فيها القضاء، ولعل تدخل الرئيس التونسي قيس سعيد هو ترجمة لممارسات “النهضة” على مدار عقد من الزمان لم تثمر إلا الخراب، ولعل طول هذه الفترة في الحكم هو الذي كشف نوايا التنظيم أمام الشعب، مما اضطره للمواجهة.
لم يعد للإخوان أو الإسلام السياسي أي وجود يُذكر في الإقليم، خسروا السلطة، ولكنهم ما زالوا يسعون لاستعادتها والتحريض على الدولة الوطنية، وهنا يبدو الخطر ولا بد أن تكون المواجهة.
ورغم تراجعهم السياسي فإن هذا لا يعني اختفاءهم، بل إن عودتهم قد تكون أخطر إذا تُركوا دون مواجهة أو تفكيك للأفكار المؤسسة، ولعل مواجهة الأفكار الأهم والأخطر!