خطاب أبو مازن… ظُلم للقضية وشعبها

نزار السهلي
يبدو أن السلطة الفلسطينية، ممثلة برئيسها ومجلسها المركزي، وأعضاء المنظمة المجتمعين تحت إشراف الرئيس أبو مازن، قد حسموا وبشكل قاطع في تثبيت ركائز أساسية للقطع مع الماضي والحاضر والمستقبل، فكل ما لصق بالقضية الفلسطينية وتاريخها، وما يرافقها من أحداث على الأرض، باتت في هذا العرف الحاسم، ” تطليخ” وتسفيه، وقلة حياء محسنة اللفظ في وصف النضال الفلسطيني. فصاحب مقولة أعيش تحت “بسطار” المحتل والمؤمن بنيته الفاضلة بالتعايش معه تحت أي ظرف، بالضغط على الشعب الفلسطيني لانتزاع ما في صدره من عداء لهذا المحتل، لم يعد مفيدا معه كشف حقيقة عقلية السلطة الفلسطينية وزعيمها، وما هم ذاهبون إليه؛ فمطالبة السلطة من قبل شعبها بالرجوع، أو التمسك بالخطوط الحمر أو الحدود الدنيا، أو ما شابه ذلك للحفاظ على الكينونة الفلسطينية واستعادة وحدتها ورمزيتها وتأثيرها لمواجهة حرب إبادة ومشروع استعماري استيطاني، باتت صعبة مع هذه العقلية.
خطاب أبو مازن أمام المجلس المركزي في دروته الـ32، يعيد تذكير الفلسطينيين بأن هذا الجمع قد حسم أمره منذ زمن طويل، وأن شيئا لم يعد قادرا على وقف مسيرته بهندسة الانصياع للأمر الواقع الصهيوني على الأرض، وأن جريمة حرب الإبادة التي تستمر في ارتكابها إسرائيل في غزة ومدن الضفة، توظف كمبرر جديد للتنازل عن قيم وحقوق أصيلة لمن يرزح تحت الاحتلال، وأن سبب كل هذا الخراب والكوارث والنكبة الجديدة هم الفلسطينيون أنفسهم، وهذه نظرية وسردية صهيونية روجت منذ النكبة الأولى عام 1948 عن الضحية الفلسطيني، وتكررت في سردية الاحتلال الذي وظف السابع من أكتوبر 2023، للهجوم الساحق على كل من يتبنى نضال ومواجهة المستعمر وفضحه، وانتقال هذه السردية لحناجر الإدارة الأميركية وحناجر غربية بتحميل ضحايا الاحتلال مسؤولية ما تؤول إليه أوضاعهم.
فما هي حاجة الفلسطيني للمقاومة والنضال؟ وما حاجته لسلاح إن كان حجرا أو سكينا أو بندقية، فالرئيس لم يؤمن بهذا النهج لا في بداية انخراطه بحياة الفلسطينيين السياسية، ولا أثناء مواكبة ثورتهم المعاصرة وصولاً لزعامته عليهم، ولا في خاتمة العمر التي يترقبها، ولا حاجة لأي شكل من أشكال النضال والاحتجاج، إلا في الوقوف خلف الزعيم وخطاب “الفهلوة” أمام شعبه وفي المحافل الدولية، التي كانت عصارتها خطاب “احمونا” أمام الأمم المتحدة في العام 2023، وسؤال لماذا لا تقدمون الحماية لنا؟ ويقصد المجتمع الدولي العاجز منذ ثلاثة أرباع القرن على مواجهة المشروع الاستعماري في فلسطين؛ فكل ما جرى ويجري للفلسطينيين من عدوهم، لن يكون سببا لإعادة النظر والمراجعة الصادقة لكل المواقف والسياسات، على العكس من كل ذلك، يؤكد الرئيس أمام المجلس المركزي الذي بحاجة أيضا لإعادة إصلاح وانتخاب والتدقيق في شرعيته، يؤكد أن مغادرة العقلية المريضة بالسلطة والتنسيق الأمني، والمنشغلة بجزئيات والتقوقع في تفاصيل تقديم حسن النية للمحتل، والتنازل عن مبادئ أساسية في الموقف الفلسطيني.
كرر أبو مازن سردية الاحتلال بمسؤولية تدمير غزة على المقاومة، وسلوكه مع أجهزته في مدن الضفة والقدس جنبا إلى جنب أجهزة الاحتلال للقضاء على جيوب مقاومة الاحتلال ومستوطنيه، فتعكير حياة المستعمرين لا تجوز من قبل أصحاب الأرض والتاريخ، لأن لديهم قيادة سياسية تنتظر وتأمل أن يبدل المستعمر جلده وعظمه، وربط ما يقوم به الفلسطينيون من نضال ومقاومة بالمؤامرة المرتبطة مع محتلهم ليمنحوه ذريعة العدوان. “فأولاد الكلب” الذين يحتجزون رهائن الاحتلال هم أساس الكارثة بحسب خطاب أبو مازن، الذي أضاف نظريته عن سلاح المقاومة وضرورة أن يكون السلاح بيد ” الدولة “، في استهتار من خلال وصف حالة السلطة بالدولة، على أساس أن سلاح أجهزتها الأمنية هو موجود لحماية شعبها من جرائم الاحتلال. لكن واقع الحال يصعب تزويره، ومن الصعب الاستخفاف بعقول الفلسطينيين الذين يعايشون يوميا سلوك واصطفاف وأوامر هذه الأجهزة، وأين تصب وإلى أي دريئة تصوب سلاحها.
في خطاب أبو مازن أمام المجلس المركزي، الكثير من النقاط والمفردات التسطيحية، مثل “أنا قلت من البداية أوقفوا الحرب وما ردوش علي لأن حماس مبسوطة ونتنياهو مستمر بالحكم”. هذا التسطيح للأحداث وقراءة الواقع. خطاب ليس جديدا، ولا يليق بتضحيات ” المبسوط” الذي قدم أغلى التضحيات من نفسه وأبنائه ودمه، ولا يليق بالشعب الفلسطيني الذي يتعرض في الضفة والقدس لجرائم إبادة تحت سمع وبصر أجهزة السلطة، التي تعمل على منع أي تجمع أو تظاهرة تندد بهذه الجرائم وترفضها، وتعمل على مطاردة وملاحقة كل نشطاء المقاومة، ثم يقفز السؤال الكبير: هل حقا هذه القيادة تحمل هموم الأسرى القابعين في زنازين الاحتلال منذ عقود، وهل تلتفت بجدية للتصدي لإرهاب المستوطنين وسرقة إرض الفلسطينيين، وهل فعلا تمتلك أدوات تمنع تهويد الأرض والمقدسات؟ وهل هي معنية جديا بإنهاء الانقسام وتطبيق اتفاق بكين للمصالحة على الأقل؟
كلام أبو مازن للمجلس المركزي ترجمة فعلية لكل ما تفوه به سابقا، وهو الأكثر انسجاما بربط القول بالفعل، فهو لا يؤمن بشيء يدل على “المقاومة” بكل أشكالها ووسائلها، واستطاع بعد أوسلو أن ينجز ما عجز الاحتلال عن فعله. قائمة الأفعال طويلة ومذهلة جدا باعترافه واعتراف الإسرائيليين بها، فاجتماع المجلس المركزي لا ينعقد لبحث المسائل الجوهرية مثل حرب الإبادة والتجويع في قطاع غزة، ولا الرد على العدوان في مدن الضفة، ولا لبحث كيفية وحدة الفلسطينيين للمواجهة، بل يعقد من أجل سد بعض الفجوات في عضوية المجلس دون انتخابات، واستحداث منصب لنائب “الرئيس”، وليكون مناسبة للتأكيد على ثوابت أبو مازن من مقاومة الشعب الفلسطيني بصورة عامة، فالقرارات السابقة للمجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني لم تطبق، وكل الدعوات من أجل الإصلاح الداخلي لم يؤخذ بها، على صعيد استعادة وحدة المنظمة وتشكيل قيادة فلسطينية موحدة مسؤولة عن النضال الكفاحي والسياسي. لكن في المحصلة، خطاب الزعيم الذي وصف نفسه بـ”الزعلطي”، من توجيه الشتائم للمقاومة واستخدام أوصاف مثل أولاد الكب، هي مثل وصف يوآف غالانت للغزيين بالحيوانات البشرية، ومطالبتهم بالاستسلام، و استخدام ذريعة الاحتلال بإلقاء المسؤولية على الضحايا، ودعوتهم للاستسلام للأمر الواقع؛ ةهي خلط للمفاهيم والمصطلحات ودعوة للخضوع لقيادة تبتعد عن تطلعات شعبها.
كل كلام الرئيس “الزعطلي” (كلام فاقد للكياسة واللباقة) وسياسته وبرنامجه، هو ظلم للشعب وللقضية الوطنية ولكل من يقاتل من أجلها.