خطة سيناء”: من “مونوريو” إلى “ميسجاف” (2)
لم تكن مخططات تهجير الفلسطينيين من غزة الفلسطينية إلى سيناء المصرية وليدة أحداث السابع من أكتوبر الماضي وما تلاها، بل هي قديمة قدم الصراع العربي الإسرائيلي ومواكبة لبداياته ومحطاته الرئيسية ولحظات انفجاره الفاصلة.
وما أحداث غزة إلا لحظة انفجار أخرى ارتأتها إسرائيل مواتية لتنفيذ هذا المخطط الذي طال انتظاره، والأدلة على ذلك كثيرة والمحطات الفاصلة تكررت مرارا في لحظات الصراع المفصلية، وما تم الكشف عنه يظل نقطة في بحر كبير غامض سيأتي يوم يفيض بما فيه، ولم يكن ما كشف عنه المعهد “ميسجاف” الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية من تفاصيل دقيقة للخطة الإسرائيلية المرتقبة لتهجير كافة سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء في مصر هو أول الخطط أو أول ما يتم الكشف عنه، بل إن الأمر يعود لبدايات الصراع العربي الإسرائيلي ويبدو أنه لم يتوقف يوما ما، وكان ينتظر فقط الفرصة المناسبة والظرف المواتي الذي تحقق مرة أخرى في أحداث السابع من من أكتوبر الماضي.
مما تم الكشف عنه مؤخرا ليثبت قدم هذا المخطط وانتظار الفرصة المواتية لتنفيذه كان ما كشفت عنه وثائق وزارة الخارجية البريطانية المفرج عنها مؤخرا واطلعت عليها هيئة الإذاعة البريطانية من أن الحكومة البريطانية، وبعد فشل الحرب الثلاثية، البريطانية الفرنسية الإسرائيلية، على مصر ردا على تأميم الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس في 26 يوليو عام 1956، درست خطط ومشاريع عدة شملت دمج جزء من سيناء، وقطاع غزة، وجزيرتي تيران وصنافير، وجزء من الأردن لإنشاء منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل، في إطار تسوية الصراع بين إسرائيل والعرب، وتأمين تدفق النفط من الشرق الأوسط إلى الغرب.
وكان من بين المشروعات المطروحة مشروعا باسم “خطة سيناء”، اقترحتها على الحكومة البريطانية إليزابيث مونوريو، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة الإيكونيميست في 13 ديسمبر عام 1956، أي قبل ثلاثة أشهر من انسحاب إسرائيل من سيناء التي تلكأت في الانسحاب من سيناء، لكنها اضطرت لمغادرتها بضغط دولي في شهر مارس عام 1957، رغم انتهاء الحرب في نوفمبر من العام السابق.
تمحورت الخطة حول فكرة رئيسية وهي استغلال سيطرة إسرائيل على سيناء لإقناع مصر بالتنازل عن جزء منها لإقامة منطقة دولية باسم “قطاع سيناء”، يشمل هذا القطاع المقترح قطاع غزة بالكامل ونحو 33 كيلومترا من سيناء تمتد من البحر المتوسط إلى خليج العقبة، بالإضافة إلى جزيرتي تيران وصنافير، اللتين خضعتا للاحتلال الإسرائيلي في نوفمبر عام 1956 بعد العدوان الثلاثي، وبشرت الخطة بتوطين مئات آلاف من الفلسطينيين في “قطاع سيناء” المقترح، بما يحقق هدف ” إزالة الخطر اليومي المتمثل في انفجار الوضع في فلسطين”.
أما عن كيفية إدارة هذا القطاع وطرق تأمينه، فاقترحت مونوريو، التي كانت في حينها تتمتع بنفوذ وصلات قوية في الشرق الأوسط، وبسمعة كبيرة بعد تأليفها كتبا عدة عن المنطقة، أن تكون الإدارة دولية، وتمارسها إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، وتقدم تقريرا سنويا إلى الجمعية العامة، واقترحت للتأمين تشكيل قوة مدنية تتمتع بمساندة المنظمة الدولية وتحوذ ضمانات واسعة لممارسة السلطة في المنطقة. ولا تملك هذه القوة إلا سلاحا شرطيا خفيفا لفرض الأمن والنظام وتسيير الحياة اليومية، ووفق الخطة، سوف تمنع قوة الشرطة مرور أي أسلحة عبر المنطقة العازلة إو إليها، على أن تمارس القوة الأممية المهام المكلفة بها لمدة 10 سنوات على الأقل، تخضع بعدها لمراجعة الأمم المتحدة .
وفي اقتراحها، أكدت مونوريو أن القطاع المقترح يجب أن يُقتطع فقط من سيناء المصرية، وأضافت أن في ذلك ميزة، موضحة أنه “من المستحيل اقتطاع جزء من إسرائيل”. ودفاعا عن توقيت طرح الخطة قبل جلاء إسرائيل عن سيناء، قالت المؤلفة البريطانية إن “التنفيذ سيكون أكثر صعوبة بمجرد عودة الأرض (شبه جزيرة سيناء) إلى أيادي المصريين”.
وأشارت إلى أن “اقتطاع جزء من الأراضي المصرية التي استولت عليها، وعبرت عن اعتقادها بأن “الفرصة ربما لا تتوفر مرة أخرى بدون حدوث انفجار آخر، ربما يكون أكبر بدرجة لا يمكن التعامل معه بالطريقة الممكنة الآن”.
المفارقة التاريخية الملفتة في هذه الخطة أنها تكاد تتكرر بنفس أسبابها وظروفها وسياقها وملابساتها الآن، فكأن الليلة تشبه البارحة وكأن الماضي يعيد نفسه، وكأن ثلثي قرن من الزمان لم تنقض، فإقدام جمال عبد الناصر على تأميم قناة السويس عام 1956 كانت ذريعة لإسرائيل للدخول في الحرب تحقيقا لأهدافها الخفية أكثر منها سببا منطقيا أو ضروريا لخوضها، تماما كما استغلت إسرائيل مغامرة حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي لتحقيق أهداف أبعد كثيرا عن الانتقام لما حدث، كما أن الأسباب التي ساقتها مونوريو والتي يمكن أن تجعل مصر توافق على خطتها هي ذات الأسباب والظروف التي يروج لها أصحاب المشروع الحالي بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وهي حاجة مصر إلى المال وأزمتها الاقتصادية التي ستدفعها -كما يرى هؤلاء في الماضي والحاضر- إلى قبول هذه الصفقة المشبوهة والملوثة بدماء الفلسطينيين، حيث راهنت مونوريو وقتها على حاجة مصر إلى المال في مشروعات التنمية. وهو المنطق ذاته الذي راهن عليه أصحاب المشروع الحالي لتمرير مشروعهم رغم مرور نحو نصف قرن من المشروع الأول، وهذا حديث له بقية…