رأس أبو عجيلة في مزادات الدبيبة للاستمرار في الحكم
كان واضحا أن ضابط الأمن الخارجي الليبي السابق أبو عجيلة مسعود ذهب قربانا لرغبة عبد الحميد الدبيبة في البقاء في الحكم إلى أجل غير مسمى، وأن تسليمه إلى واشنطن يدخل في سياق الصراع القائم على السلطة، والخاضع لتوازنات إقليمية ودولية لا شك أن الولايات المتحدة تحتل فيها مركز الصدارة، وقد جاء رد السفير الأميركي ريتشارد نورلاند على تلك الخطوة ليصب في مصلحة الدبيبة والمحيطين به عندما أعلن أن بلاده لا تعتقد بوجود حاجة لليبيا إلى تشكيل حكومة أخرى مؤقتة، في إشارة إلى تلك التي كانت محور تفاهمات بين رئيسي مجلسي النواب والدولة قبل أن تضربهما القطيعة من جديد.
منذ العام 2013 تقدم مسؤول ليبي بوشاية إلى الجانب الأميركي مفادها أن أبوعجيلة اعترف وهو قابع خلف القضبان بأنه هو من صنع القنبلة التي تم تفجيرها في طائرة بوينغ 747 التابعة لشركة “بان أميركان” في 21 ديسمبر 1988 فوق قرية لوكربي الأسكتلندية، ما أدى إلى مقتل جميع من كانوا على متن الطائرة وعددهم 259. أدت تلك الوشاية إلى إعادة فتح الملف الذي كان من المفترض أنه أغلق بقرار رسمي أميركي بعد حصول اتفاق مع ليبيا يقضي بتقديمها تعويضات لأسر الضحايا تقدر بـ2.7 مليار دولار، حيث قام الرئيس جورج دبليو بوش في 31 أكتوبر 2008 بتوقيع مرسوم بالتزام بلاده بإغلاق أي قضايا مفتوحة بخصوص الحادثة أمام المحاكم المحلية والأجنبية.
إلى آخر لحظة كان الليبيون يؤكدون براءتهم من التورط في قضية لوكربي، لكن عجزهم عن مواجهة قوة الولايات المتحدة والعقوبات التي نجحت في تسليطها على بلادهم بقرار من مجلس الأمن، وشعور نظام القذافي بالعزلة ورغبته في المقابل في الانفتاح على العالم، جعلهم يوافقون على تقديم التعويضات ويقدمون على الاعتراف القسري بالمسؤولية عن الحادثة، رغم أن أغلب المؤشرات كانت تتجه نحو طرف ثالث وهو نظام الملالي في إيران الذي كانت لديه دوافع أكثر مما كانت لدى نظام القذافي لتفجير الطائرة، وقد تم سرد تفاصيلها في الكثير من الكتب والبرامج الوثائقية والتقارير الاستقصائية التي أكدت أن تصنيع القنبلة تم بترتيب من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة ولفائدة طهران.
في 17 نوفمبر الماضي، تم اختطاف مسعود من منزله بحي أبوسليم الشعبي وسط العاصمة طرابلس من قبل مسلحين تابعين لأمير الحرب غنيوة الككلي الذي يحظى بمكانة كبيرة في منظومة الحكم الميليشياوي بغرب ليبيا، حيث تم تعيينه منذ ثلاث سنوات رئيسا لما يسمى بـ”جهاز دعم الاستقرار”، ومن هناك جرى نقل مسعود إلى مصراتة حيث تسلمته ميليشيا القوة المشتركة الموالية للدبيبة، وقامت سلطات طرابلس بإعلام الجانب الأميركي بأن الضابط السابق يوجد في القفص، وبعد أسبوع وصلت طائرة خاصة إلى مالطا ثم إلى مصراتة لاستلامه ونقله إلى واشنطن في ظل متابعة كاملة ولحظة بلحظة من مكتب رئيس الحكومة المنتهية ولايتها.
جرت عملية الاختطاف بشكل أقرب إلى شغل العصابات، ودون أي احترام لما تبقى من سيادة الدولة المنهكة بسبب عبث من تولوا أمرها خلال الأعوام الـ12 الماضية، وكان يمكن أن تواصل حكومة الدبيبة التكتم على مصير الرجل المختطف المسنّ والمريض لولا أن الإعلان عن نقل الرجل إلى واشنطن جاء من الإعلام الغربي قبيل ساعات من مثوله أمام المحكمة في جلسة إجرائية الاثنين الماضي، وقد واجهته الحكومة المنتهية ولايتها بالصمت، ثم بمحاولة تبرير الموقف أمام الشعب المقهور، وبالضغط على أسرة المختطف حتى تقبل بالأمر الواقع.
كان واضحا أن العملية جرت ضمن دائرة القرار الأسري والفئوي ووفق مصالح الجماعة المتصدرة للحكم برئاسة الدبيبة، والتي تسعى إلى الحصول على جملة من الامتيازات من الإدارة الأميركية منها الدعم الكامل لاستمرار الوضع على ما هو عليه ولبقاء الحكومة المنتهية ولايتها في السلطة إلى أجل غير مسمى، والعمل على التصرف في الأموال الليبية المجمدة منذ 2011، والتي تعتبر هدفا كبيرا لشبكات الفساد ونهب المال العام واللوبيات المحيطة بمراكز القرار حاليا على ألاّ مانع من منح تعويضات جديدة لأسر ضحايا لوكربي، إذا وجدت الدعم السياسي لإعادة فتح ملفات الابتزاز بتواطؤ مباشر من منظومة الحكم الحالية في طرابلس.
قد يكون من أكبر مآسي الدولة العربية التي اهتزت أركانها وشهدت تحولات جذرية خلال العقدين الماضيين، كالعراق وليبيا، أنها ابتليت بنخب سياسية وصلت إلى مراتب متقدمة من السلطة دون أن يكون لها أي ولاء لقيمة الوطن أو لروح الانتماء، فقد تغلبت عليها نزعة التبعية للدول المؤثرة إقليميا وعالميا من أجل توفير غطاء خارجي لمصالحها الداخلية، سواء المتعلقة بالبقاء في الحكم أو بالإفلات من العقاب بعد مغادرته، وفي هذا الاتجاه يمضي الدبيبة الذي لا يخفي استعداده لتنفيذ مختلف الإملاءات وإبداء جميع الولاءات لمن يمكن أن يساعده على البقاء في مكتبه الحالي، ليس فقط كرئيس للحكومة ولمجلس الوزراء، ولكن وهذا المهم كواجهة لجماعة تنظر إلى ليبيا الثرية بنفطها وغازها وإيراداتها اليومية وأرصدتها المجمدة باعتبارها غنيمة ومكسبا استثنائيا لا يمكن التفريط فيه مهما كان الثمن.
تحركت أغلب أطياف المجتمع الليبي لتندد بتسليم مسعود إلى الأميركان، وأعلن مجلسا النواب والدولة وحكومة دعم الاستقرار برئاسة فتحي باشاغا وعشرات النواب والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفعاليات القبلية والاجتماعية عن استنكارهم للحادثة التي رأوا فيها استهانة بالبلاد والشعب وبمبدأ استمرارية الدولة ومؤسساتها وبروح القانون، واعتبروا أن ما قام به الدبيبة وفريقه لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال ولا بأي معنى من المعاني سوى الإصرار على التمسك بالكرسي وما وراءه من مكاسب شخصية وأسرية وفئوية.
كما ارتفعت أصوات أعضاء مجلس النواب والناشطين السياسيين والحقوقيين وغيرهم لتطلب من النائب العام فتح تحقيق في جريمة اختطاف مواطن ليبي وتسليمه إلى جهة خارجية، لكن هذا المطلب غير قابل للتحقيق في الوقت الحالي على الأقل، وذلك نظرا إلى جملة من الاعتبارات من بينها أن مكتب النائب العام يوجد بطرابلس التي باتت مخطوفة من قبل الدبيبة وفريقه والميليشيات الموالية له وجحافل المرتزقة العاملة تحت إمرته، وهي تخضع لدكتاتورية مستعدة للدوس على كل من يقف في طريق سعيها للتمدد أكثر على حساب حرية الليبيين وأمنهم واستقرارهم والحياة الكريمة التي يفترض أن يعيشوها في بلادهم.
سيؤدي فتح ملف لوكربي من جديد إلى تسجيل عدد من التناقضات التي يمكن أن تعصف بالقضية من جذورها، لاسيما أن التهم المنسوبة إلى أبوعجيلة مسعود سبق أن حوكم بسببها شخص آخر وهو عبدالباسط المقرحي، بما يعني وجود تضارب في الأدلة يخدم مصلحة الليبيين، لكن منطق القوة والهيمنة يبقى طاغيا في مثل هذه القضايا التي تتخذ أبعادا سياسية وتدخل ضمن الخيارات المصلحية لمن يقفون وراءها كما كان الأمر سابقا وكما هو حاليا.
يبقى أن الدبيبة الذي يرغب في جني ثمار الصفقة القذرة يضع مع كل يوم جديد حجرا آخر على أساسات تقسيم البلاد، حيث لم يعد للخارجين عن دائرة نفوذ حكومته القدرة على الاستمرار في تحمل خطاياه والقبول بمغامراته المناقضة لتطلعات وطموحات الليبيين، وبسعيه الدائم للاستقواء بالخارج على شركائه في الوطن، حتى لو كان الثمن رهن مقدرات ليبيا أو تسليم ليبيين إلى قوى خارجية من دون سند قانوني أو سياسي.