رسائل يبعث بها قيس سعيد إلى أردوغان على طريقته
حكيم مرزوقي
عادة استشهاد الرئيس التونسي قيس سعيد، في معرض لقاءاته مع وزرائه وضيوفه وحتى خصومه، بـ”وسائل إيضاح” تتمثل في جملة من الصور والوثائق والمخطوطات، ليست دائما على طريقة أستاذ المدرسة أمام طلابه الكسالى كما يقول منتقدوه في الصحافة المحلية والأجنبية.
مدرّس القانون الدستوري في الأمس القريب لا يريد أن يعتاد الآخرون النظر إليه كمردد حاذق لفصول الدستور وحافظا لها عن ظهر قلب، كما كان يظهر على المحطات التلفزيونية قبل توليه سدة الرئاسة التي أعيت من وصل أو يود الوصول إليها بعد عقود من حكمي بورقيبة وبن علي، بل ذهب بعيدا نحو إرفاق أقواله بأفعال وشواهد، وأدلّة وقرائن كما يقولون في لغة القانون.
لم يوفر الرئيس التونسي فرصة إلا واستخدم فيها “أسلوبه التوضيحي” ومنهجه في استقراء التاريخ القديم والحديث عبر الوثائق والصور، من الاستشهاد بقصاصات صحافية ورسومات كاريكاتيرية قديمة أمام رئيس وزرائه المخلوع هشام المشيشي في احتفال عسكري، مذكرا إياه بأن التاريخ قد بدأ يكرر نفسه على شكل مهزلة، ووصولا إلى عرض صور الفوضى والاقتتال التي قام بها “نواب الشعب” من أعضاء حركة النهضة، تحت قبة “مجلس نواب الشعب” بعد أن قام بتجميده ومن ثم حله، أواخر شهر مارس الماضي.
لم يرق، طبعا، للرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجميد البرلمان التونسي الذي يسيطر عليه حلفاؤه من حركة النهضة ومن ثم حله، فقال “حل البرلمان المُنتخب في تونس يُشكل ضربة لإرادة الشعب التونسي”. ووصف رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب قرار حل البرلمان بتونس الذي أعلنه الرئيس سعيد، بأنه “خرق صارخ للقانون وللمبادئ الديمقراطية، ويبعث على القلق إلى أبعد درجة”.
ومثل غالبية الذين تجاهلوا رسائل سعيد غير المنطوقة، والمعتمدة على الصور والوثائق وحدها دون كلام أو أنها لم تصلهم بشكل جيد، مضى زعيم الإسلام السياسي التركي في حالته الطاووسية معربدا ومتوعدا ساكن قصر قرطاج الذي قال من خلال منبره عام 2019 أثناء زيارته لتونس إنه قد “اشتم فيه رائحة دخان”.
يبدو أن هذه العبارة ليست مجرد خرق واستفزاز بروتوكولي ردّ عليه الرئيس سعيد وقتها بأن الأمر لا يعدو أن يكون رائحة زيت زيتون تونسي أعدت به مأدبة الغداء، وذلك لتذكير أردوغان بأننا نأكل من خيرات بلادنا وحدها.. ثم تتالت الرسائل غير المباشرة بأن اصطحب سعيد ضيفه الثقيل في جولة بانورامية داخل أروقة قصر قرطاج التاريخي الذي يفوق في دلالته التاريخية قصر يلدز في الأستانة، والذي كان مقر السلطان العثماني عبدالحميد الثاني وحكومته سنة 1922.
كان سعيد ذكيا في أن يجعل حركة الضيف في أرجاء القصر موازية لعدد من اللوحات التاريخية لبايات (ملوك) تونس ممن كانت تعينهم الأستانة لحكم الإيالة أي مستعمرتهم، أو مستعمرتهم التونسية.
مر أردوغان، وغصبا عن إرادته في جولته تلك، بصور لأغراب هم عبارة عن خليط من الأتراك والصقالبة ممن تحولوا إلى الإسلام وترقوا في ثكنات الانكشارية، كانوا يتحدثون لغة تركية في أراض تونسية، يحكمون بالحديد والنار، يفرضون الأتاوى والضرائب المجحفة، ويعلمون الجهل والتخلف على الطريقة العثمانية المعروفة.
ولكي يؤكد التاريخ سرديته الهزلية ضمن دورته اللولبية، فإن هؤلاء البايات قد سكنوا قصر باردو في ضاحية مدينة تونس أي محيط مقر البرلمان حاليا، والذي كان يتربع راشد الغنوشي على كرسي الرئاسة فيه قبل الخامس والعشرين من يوليو التي أطاحت به مثلما أطاح هذا التاريخ بآخر بايات تونس عام 1957 على يد الزعيم بورقيبة حين أعلن الجمهورية.
كأن مصير كل من حكم قصر باردو منذ السلالة الحسينية التي تأسست عام 1705 بعد الإطاحة بالمراديين، أن تلتقي صورهم في بهو قصر قرطاج كشاهد على هزيمتهم تباعا أمام “إرادة الشعب” التي جعلها سعيد شعارا لحملته الانتخابية.
“التونسة والتعريب” غلبتا “التتريك والعثمنة” اللذين هيمنا باسم “الأسلمة” فترة حكم السلاطين الذين أراد أردوغان، عبثا، أن يعيدهم في جسد الإخوان وأشباحهم في القرن الحادي والعشرين.
حتى البعض من هؤلاء البايات كانوا قد استقلوا بالأمر حتى أصبحت دولتهم كيانا قائما بذاته على حساب الأتراك العثمانيين. نذكر من هؤلاء فترة حكم حمودة باي (1782 – 1814) التي سميت بالفترة الذهبية، حيث أصبحت تونس دولة كاملة السيادة. بدأت في نفس الفترة عملية تعريب البلاد، من خلال إحياء الثقافة، كما تم إدخال نظام تعليمي أشرفت عليه الدولة.
ولعل أشهرهم كان أحمد باي (1837 ـ 1855) الذي منع الرق، والصادق باي (1859 ـ 1882) الذي اشتهر بإصلاحاته في التعليم، وكذلك المنصف باي المعروف بمقاومته للاستعمار الفرنسي وقربه من الشعب.
صفوة القول أن أردوغان، نفسه، متعلق بمغالطة تاريخية يستحيل تحقيقها ولو على سبيل الوهم والمقاربة الخيالية من حيث النفخ في أشلاء الماضي.. ومع ذلك، كيف السبيل لإقناع رجل تركيا المريض بأن هذا الحلم العثماني كان صرحا في الهواء وهوى؟
يُخيل للمرء أحيانا أن الحق ليس على أردوغان الذي وقف في أروقة قصر قرطاج على حقيقة مفادها أن حتى “أجداده لم يكونوا أجداده” بل الحق على من صدق الأكذوبة وتوهم أنه سليل سلاطين بني عثمان، وجاء ليحيي عظامهم وهي رميم بتكليف إلهي.
أيّ حقيقة هذه التي تبحث عن الأحفاد وإخوة العقيدة وأبناء العمومة من خلف البحر، تصدر الفرامين وتعلن النفير على طواحين الهواء كما حاولت مع سوريا ومصر وليبيا عبر انكشاريين جدد؟
حتى الشعب التركي، وبجميع غلاته وسلفييه، لا يقبل هذه الرواية الأردوغانية ويعتبرها ضربا من الجنون، إذ كيف يقبل بالوصاية على شعوب ملتهية بمحاولة الخروج من أزماتها التي تسببت سياسة أردوغان بالكثير منها.
أما كان الأجدى بنظام أنقرة البحث عن حلول للمشاكل السياسية والاقتصادية التي أوقع فيها نفسه بدل تصديرها إلى الخارج عبر انكشارييه الذين تهاوت عروشهم الواحد بعد الآخر؟ كيف ينصب نفسه حاميا للدساتير وحقوق الإنسان وهو الذي شاهده العالم بأسره سنة 2016 على الشاشات كيف كان أتباعه يسحلون رجال الجيش وينكلون بهم ويهينونهم في ما سمي بمحاولة الانقلاب؟
لنفترض جدلا أن تجاوزات قانونية حصلت في تونس.. أما كان الأولى أن يصححها الشعب التونسي بمؤسساته الدستورية والمدنية بدل “شراء الشموع من عند العميان”؟
يتفق المؤمنون بالسلام والتعايش بدل المواجهة والصدام المباشر، أن أفضل طريقة لإيقاف هذه العربدة السياسية والوقاحة الدبلوماسية هو التصدي لطموحات أردوغان عبر تنظيف الساحة من أتباعه ومواليه في الداخل.
ولا يمكن تحقيق هذا الأمر إلا بتوخي سياسة لا يمكن فيها خرق الدستور باسم التصدي لمن خرق الدستور في بلاده وجعله مطية لتشجيع الفساد في بلادنا. وبهذا فقط، يمكن اعتبار رد الرئيس التونسي منطقيا وحاسما في قوله إن “تونس ليست إيالة عثمانية ولا تنتظر فرمانا من أي طرف”، مؤكدا أن “التصويت في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر المقبل سيجري على مرحلتين وسيكون على الأفراد وليس على القوائم”.. وهكذا تكون يا قيس سعيد قد نزعت فتيل الفتنة وأسكت من يريد القول إنك تهرب من أزمات البلاد عبر افتعال الخصومات مع الخارج مهما كان له من جيوب وذيول في الداخل.