رسالة مهربة من سجون أردوغان
أخذوا حريتي لكن كلماتي لا يمكن سجنها
“أخذوا حريتي، لكن كلماتي لا يمكن سجنها”.. جملة ختم بها الكاتب التركي أحمد ألتان مذكراته التي تم تهريبها من داخل زنزانته حيث يمضي عقوبة السجن مدى الحياة في أحد معتقلات رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان.
وكما يقال يكرر التاريخ نفسه، فما كتبه ألتان يشبه ما قاله المهاتما غاندي ذات يوم: “ربما يعذبون جسدي ويحطمون عظامي، ولكن سيكون لديهم جسدي الميت لا طاعتي وخنوعي”.
ويقول الصحافي البريطاني مارك سيكومب، في مقالته بصحيفة “الغارديان” البريطانية، عن ألتان الذي تم ترشيحه الأسبوع الماضي عن الرواية الجديدة “لن أرى العالم مرة أخرى”، لجائزة بريطانية كبرى للآداب، إنه تم تهريب مذكراته التي تتألف منها فصول الرواية ضمن ملاحظات وخطابات لمحاميه من داخل زنزانته.
في فبراير 2018، عندما صدر الحكم بالسجن مدى الحياة ضد الروائي والصحافي ألتان، قوبلت هذه العقوبة بالغضب الشديد من لفيف من الكتاب حول العالم، والذين بادروا بإصدار نداء إلى أردوغان لإطلاق سراح أحمد ألتان، قام بتوقيعه 38 من الحائزين على جائزة نوبل، على رأسهم الروائي البريطاني فيديادر سوراجيراساد نيبول والجنوب أفريقي جون كويتزي والياباني كازو إيشيجورو، ولكن وكأنه لا حياة لمن تنادي.
وفي يوليو، أصدرت محكمة النقض، وهي أعلى محكمة استئناف في تركيا، حكما بإلغاء إدانة ألتان، لكنها قضت بوجوب إبقائه في السجن على ذمة قضية أخرى تتضمن اتهامات “بتعمد مساعدة حركة غولن”، وهي الحركة التي يعتبرها النظام الحاكم التركي منظمة إرهابية. وينكر ألتان هذه الاتهامات، التي ستبدأ محاكمته بشأنها في 8 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
قام فيليب ساندس، المحامي والكاتب البريطاني-الفرنسي لحقوق الإنسان، برفع القضية إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ على أساس أن ألتان محتجز بشكل غير قانوني. وصرح ساندس لصحيفة “الأوبزرفر” قائلا: إنه “بصراحة يساوره الخوف من احتمال فشل بريطانيا” في الضغط من أجل إطلاق سراح ألتان، مشيرا إلى ضرورة أن تضغط الحكومة البريطانية بقوة في هذا الصدد. وقال ساندس: “يجب على بوريس جونسون دعوة أردوغان علنًا إلى إطلاق سراح أحمد (ألتان)”.
في هذه الأثناء يقبع ألتان سجينا في زنزانة، يشاركه فيها سجينان في سيليفري، على بعد ساعتين بالسيارة غرب إسطنبول على بحر مرمرة. ويواصل ألتان كتاباته بينما يجلس على كرسي بلاستيكي أمام طاولة بلاستيكية صغيرة، مستخدما أوراقا تم شراؤها من قرطاسية بالسجن.
وتأمل السيدة جولنور، زوجة ألتان، وأنصاره وأصدقاؤه مثل ياسمين تشونغار، التي تقوم بترجمة رواياته إلى الإنجليزية، في الإفراج عنه عقب محاكمة أكتوبر، حيث قالت تشونغار: “لقد قضى بالسجن فترة طويلة بالفعل”.
وقال ألتان ل “الأوبزرفر”: “لأنه تم نقض الحكم بالسجن، فإنه هناك الآن فرصة لرؤية العالم مرة أخرى”، مضيفا: “لكن متى؟ لا أحد يعلم. إن طلب المحكمة لإصدار الحكم ضدي بطريقة أو بأخرى يدل على أنهم يريدون إبقائي خلف القضبان لأطول فترة ممكنة. ومن المحتمل أن تتم إدانتي مرة أخرى لكنني لا أعرف ماهية العقوبة. ونظراً لعدم وجود سيادة (قانون)، من المستحيل التكهن بما سيحدث”.
ولكن ألتان لم يعد يعاني مؤخرا من العزل التام عن العالم الخارجي، حيث يتم السماح لعائلته بزيارته. وقال ألتان: “أستطيع أن أرى زوجتي وأطفالي وأشقائي مرة واحدة في الأسبوع لمدة ساعة مع نافذة زجاجية بيننا”، شارحا أنه “يجب علينا التحدث عبر هاتف، ولكن يمكننا أن نرى بعضنا البعض. وعلاوة على أفراد عائلتي، يمكن لثلاثة من أصدقائي، قمت بإعطاء أسمائهم لإدارة السجن، القيام بزيارتي بالوقت الحالي. في الماضي، لم يُسمح لي إلا برؤية محام لمدة ساعة واحدة في الأسبوع، لكن تم رفع هذه القيود”.
وبعد الأشهر القليلة الأولى القاتمة في السجن من دون كتب، يُسمح حاليا لألتان بدخول 10 كتب في زنزانته. وقال: “يمكنني الاقتراض من مكتبة السجن، ويمكن لمحامي إحضار كتب من الخارج”.
يحافظ ألتان على رباطة جأشه وتحديه، حيث نجا من ظلمات الاعتقال عن طريق حيلة العيش إلى حد كبير في خياله. وقال: “كل صباح أستيقظ في مكان آخر”. “ما زلت قادرا على الحياة في أحلام اليقظة. إنها تساعدني حقاً”. وأضاف ألتان قائلا: إنه “الآن معتقل مثل بطلي.. إن حياتي تحاكي روايتي..ما كتبته سيتحقق؟ أشعر بأنني أسير في دوامة حيث يتشابك خيالي وحياتي، حيث إن ما هو حقيقي وما هو مكتوب يقلد بعضه بعضا، ما نوع المصير الذي اخترته لبطل بلادي؟”.
ويقول ألتان في مذكراته التي سوف تنشر قريباً: “سنقضي بقية حياتنا بمفردنا في زنزانة طولها 3 أمتار وعرضها 3 أمتار. سنخرج لرؤية أشعة الشمس لمدة ساعة واحدة في اليوم، وسنموت في زنزانة السجن. هذا هو القرار، لن أرى العالم مرة أخرى، لن أرى أبداً سماء غير محاطة بجدران فناء … أنا ذاهب إلى الهاوية، أمشي في الظلام، بطل الرواية وأنا نختفي معاً في الظلام”.
لن تنتهي تلك الدوامة القضائية إذا تم إطلاق سراح ألتان، حيث سيواجه معارك قانونية أخرى، لأن هناك قضية معلقة ضده يرجع تاريخها إلى الفترة الممتدة من 2007 إلى 2012 من جريدة “طرف” اليومية الليبرالية، التي تم إغلاقها خلال حالة الطوارئ في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
ويواجه ألتان، بالإضافة إلى مساعدته السابقة تشونغار، اتهامات بالاستيلاء على وثيقة حكومية حول خطة سرية مزعومة لإعلان الحرب على اليونان وتدميرها. وقالت تشونغار لـ”الأوبزرفر”: “لم نر الوثيقة قط”، لكن من المحتمل أن يصدر حكمًا بالسجن لأكثر من 50 عامًا ضدهما حال تم إدانتهما.
تعمل تشونغار، البالغة من العمر 52 عاما، والتي قامت بترجمة رواية “لن أرى العالم مرة أخرى”، في منصب مدير عام منصة P24 للصحافة المستقلة، التي شاركت تشونغار في تأسيسها ككيان لا يهدف للربح.
وبحسب منصة P24، تم سجن 140 صحفياً في المعتقلات التركية، يواجهون اتهامات (مزعومة) في إطار حملة القمع عقب محاولة الانقلاب الفاشل. احتلت تركيا المرتبة 157 من أصل 180 دولة، في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2018 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، الذي يرصد الدول التي تضم سجونها أكبر عدد من الصحفيين.
تخرج ألتان في كلية الثقافة والآداب، جامعة أسطنبول عام 1981، وفِي عام 1982 كتب أولى رواياته “الخريف”، ثم ما لبث أن انخرط في العمل الصحفي لأكثر من 20 عاماً، وعمل رئيساً لتحرير صحيفة “طرف” التركية منذ 2007 حتى قدم استقالته منها في 2012، وكانت له أعمدة صحفية ثابتة في أشهر الصحف التركية. انتقد ألتان وعارض من خلال أعمدته الصحفية الكثير من السياسات التركية، واتهِم بتشويه سمعة الأتراك بسبب مقالة له عن الإبادة الجماعية للأرمن.
ولألتان العديد من الكتب والروايات الأدبية الشهيرة منها: “الخريف” و”الأثر” و”تاريخ الوحدة” و”حكايات خطيرة” و”جرح السيف” و”تمرد يوم الحب”، وآخر رواياته كانت “الموت أسهل ما في الحب”، حاز على العديد من الجوائز الأدبية كان آخرها جائزة جمعية إسطنبول لحقوق الإنسان عام 2017.
الأوبزرفر العربي