رغم الإستبداد والقبضة الأمنية …. المعارضة تتحدى أردوغان
ما قامت به الحكومة التركية مؤخرا بإقالة 3 من رؤساء بلديات محافظات رئيسية، ذات أغلبية كردية، بناء على مزاعم غامضة بأنهم من مؤيدي حزب “العمال الكردستاني PKK”، وهي جماعة كردية تحظرها أنقرة وتعتبرها إرهابية، ويبدو أن هذا الإجراء يعكس ويؤكد السلوك الاستبدادي داخل تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، بحسب ما جاء في مقال رأي بقلم أسلي أيدينتاسباس، الباحثة البارزة بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، نشرته صحيفة “واشنطن بوست” Washington Post.
إلا أن ما لم يكن في الحسبان هو رد الفعل القوي من جانب أوساط مختلفة من المجتمع التركي، منذ إقالة رؤساء البلديات الثلاث، والذي تمثل في خروج مظاهرات في البلدات ذات الأغلبية الكردية ضد قرار الحكومة. كما أعرب المعارضون العلمانيون للحكومة، مثل رؤساء البلديات المنتخبين حديثاً في إسطنبول وازمير، عن معارضتهم لهذه الخطوة.
وما يميز تركيا عن الصين أو روسيا هو أنها نصف حرة، ومازال لديها تقاليد دامت قرناً من الزمان، هي النضال السياسي من أجل حريات أكبر. ويتميز هذا المد والجزر التاريخي بفترات من الاستبداد تبعتها انفراجات. لذلك يمكن القول للأصدقاء في الغرب، الذين فقدوا الأمل فيما يتعلق بتركيا لفترة طويلة: “إن هذه المرحلة أيضاً ستمضي لحال سبيلها مثلها مثل سابقاتها من الأنظمة الاستبدادية العديدة”، بحسب تعبير كاتبة المقال.
وتقول أيدينتاسباس في مقالها: “إن تركيا، مثلها مثل العديد من الأنظمة الاستبدادية، تفضل محاكمة المنشقين بتهم الإرهاب. لقد جرى اعتقال نصف مليون شخص كمشتبه في ضلوعهم في الإرهاب منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. وما زال هناك الكثير ممن يتم التحقيق معهم بسبب انتقادهم لسياسة الحكومة تجاه الأكراد أو مشاركتهم في نشاط سياسي. ويشمل ذلك الأكاديميين، والصحافيين والسياسيين المنتخبين، مثل الزعيم الكردي المسجون صلاح الدين دميرطاش. ربما يبدو هذا بالنسبة لبلد، يبلغ عدد سكانه 82 مليون نسمة، كثقب في دلو، ولكنه يكفي ليكشف أن هناك ملايين يختلفون مع النظام الحاكم”.
وتضيف أيدينتاسباس قائلة إن إسرا مونغان، أستاذة علم النفس بجامعة البوسفور المرموقة صرحت لها مؤخراً قائلة: “لا يهم إذا كان عددنا قليلا، لكن كلمتنا لها وزن. أنا مصممة على أن أكون تلك البعوضة التي تزعج القوى الموجودة. ولا أخطط للذهاب إلى أبعد من ذلك. يوجد حولي هنا مئات من الشباب ممتلئين بالأمل. إن هذا هو المكان الذي أريد وضع كل معرفتي فيه”.
مونغان كانت بين الموقّعين على عريضة “أكاديميون من أجل السلام”، التي دعت في عام 2016 للعودة إلى محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني وإدانة السياسات الأمنية المتشددة في المناطق الكردية. وترفض مونغان العديد من عروض العمل في أوروبا أو الولايات المتحدة، التي تتلقاها منذ إلقاء القبض عليها في عام 2016.
وقام أكثر من 2000 أكاديمي بالتوقيع على العريضة. وتم طرد المئات من جامعاتهم. تمت مصادرة جوازات سفر الكثيرين منهم. حوالي 790 لا يزالون يواجهون المحاكمة، لكن نضالهم من أجل الديمقراطية مستمر.
وتستطرد أيدينتاسباس قائلة إنها خلال الأسابيع القليلة الماضية، سعت لإجراء مقابلات مع الليبراليين والأكاديميين والصحافيين الأتراك، الذين قضوا فترات بالسجن. وكانت تتوقع سلسلة من المقابلات المحبطة، ولكن بدلاً من ذلك، صادفت تقديراً عالياً للروح الإنسانية.
يوجد بند في قانون العقوبات التركي، تحديدا المادة 7/2، ينص على أن “الترويج للإرهاب” هو بمثابة عضوية في منظمة إرهابية. ولكن في حين يبدو أن ما ينطوي عليه هذا البند حميدا، غير أنه في مجال التطبيق العملي، يسمح للسلطات بتصنيف أي خطاب أو مقال على أنه دعاية للإرهاب دون إثبات أي صلة فعلية بالإرهاب.
ومثال على ذلك، مراد سليككان، أحد هؤلاء الذين يوصمون بأنهم “إرهابيون”، هو الرئيس المشارك لإحدى منظمات حقوق الإنسان الرائدة في تركيا، واسمها “حفيظة مركيزى” (أي مركز الذاكرة). ويتمحور عمل المركز على حالات الاختفاء، معظمها من التسعينيات، كما شارك أيضًا في صياغة تشريعات حقوق الإنسان أثناء محاولة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي عام 2016، كان سليككان من بين مجموعة من الليبراليين، الذين يدعمون صحيفة Ozgur Gundem التركية الموالية للأكراد ضد ضغوط الحكومة من خلال التطوع للعمل كرئيس تحرير ليوم واحد.
وانتهى به هذا العمل اللطيف إلى الزج في السجن عام 2017، حيث أمضى أشهر حبسه في تدريس اللغة الإنجليزية لزملائه السجناء، ومعظمهم من الأكراد الشباب الذين سجنوا عقابا على ما كانوا ينشرونه عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتقول أيدينتاسباس إن سيلككان أخبرها: “الطبيعة التعسفية لما يحدث.. ترهب الناس”. وبعد إطلاق سراحه، عاد سيلككان لأنشطته بحماس متجدد. وأصدر كتابه الجديد حول حقوق الإنسان.
أيضا قام تونا ألتينيل، الذي يعمل أستاذاً للرياضيات في فرنسا، بالتوقيع على عريضة السلام. وفي أبريل الماضي، تمت مصادرة جواز سفره عندما جاء إلى تركيا لزيارة صديقته، وانتهى به الأمر أيضا إلى السجن، بعدما اتهموه بأنه “إرهابي” لأنه تحدث في مناسبة تضامن كردي فرنسي في ليون تم بث وقائعها مباشرة على “فيسبوك”.
أمضى ألتينيل وقته بالسجن في تدريس دورة مكثفة لتعليم اللغة الفرنسية (6 ساعات في اليوم) لزملائه المتحمسين، ومعظمهم من الأكراد الشباب في الثلاثينيات من العمر، ممن يقضون أوقاتهم في احتجاجات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
وتقول أيدينتاسباس إنها قابلت ألتينيل بعد شهر من إطلاق سراحه، وأنه وصف تجربته في السجن بأنها كانت قصيرة وإيجابية، والتقى خلالها شبابا أذكياء للغاية. وأضاف أنه إذا كانت تركيا مكانًا عادلا فلن يكون مكان هؤلاء هو السجن، ولذلك سوف يستمر في النضال من أجل ذلك (إقرار العدل في تركيا)”.
بالنسبة لأنتينيل والأكاديميين الآخرين، فإن سجون تركيا هي مثل باب دوار، وعلى الرغم من أن هناك اهتماما دوليا كافيا يدفع السلطات التركية إلى إطلاق سراح أسماء رفيعة المستوى بعد بضعة أشهر، لكن لا يزال هناك الآلاف من الطلاب والصحافيين والمواطنين العاديين يقبعون في السجن بتهمة “إهانة الرئيس” أو “بتهمة الإرهاب” المزعومة، على الرغم من أنهم لم يدعوا مطلقًا إلى العنف وليس لديهم صلات واضحة مع المنظمات الإرهابية.
ولن يدوم هذا الوضع حيث إنه عاجلاً أم آجلاً، سيتعين على الحكومة التركية التخفيف. ويحتاج أردوغان لأن يفهم أن ملء سجون تركيا بالطلاب والأكاديميين لن يطيل فترة ولايته ولن يجعل تركيا مزدهرة وآمنة.
إن الديمقراطية وحدها هي التي يمكن أن تحقق ذلك.