روسيا القادمة للخليج: الغرب من ترك الخليج وليس العكس
هيثم الزبيدي
تبدو روسيا في وضع جيوسياسي يشبه إلى حد كبير الوضع الجيوسياسي الذي رسمه الاتحاد السوفييتي. موقع إستراتيجي ورثه الحزب الشيوعي عن العهد القيصري بعد الثورة البلشفية، ونفس الموقع ورثته روسيا عن الاتحاد السوفييتي السابق. الفرق الأساس هو القيادة: ماذا تفعل بكل هذه القوة والمنعة الجغرافية في مواجهة تحديات وجودية مع الغرب سواء أكنت شيوعيا مؤدلجا أو وطنيا روسيا تريد لبلدك الموقع الذي يستحقه عالميا؟
قادة الثورة البلشفية فلاديمير لينين وجوزيف ستالين وليون تروتسكي كانوا يعرفون بالضبط ماذا يريدون من دولتهم عندما ورثوا النظام القيصري عام 1917. بوريس يلتسين كان سكيرا لا يعرف ماذا يريد من دولته الروسية التي اقتطعها من الاتحاد السوفييتي في مرحلة تفككه عام 1991.
لكن وريثه فلاديمير بوتين يعرف بالضبط ماذا يريد. الوضع الجيوسياسي لروسيا إذا لم يستثمر، ويفرض قوته الخاصة، فإنه سيضيع كما ضاع وضع القوة العظمى للاتحاد السوفييتي. وفي أكثر من مرة أراد بوتين فيها أن يذكر بقوة روسيا نجح. في القرم وفي سوريا والآن في شرق المتوسط. وها هو يجد فرصة يهز باب الخليج بعد أن واربته إدارات أميركية متعاقبة، فيجده مفتوحا.
ومثلما أحس بالفرصة الإستراتيجية في القرم، يدرك أنها فرصة إستراتيجية في الخليج.
عيب الاتحاد السوفييتي السابق أنه كان مترددا في قمة قوته. ينشر صواريخه النووية في كوبا أولا ويعتقد أن الولايات المتحدة لن ترصد الأمر، ثم يقرر زعيمه نيكيتا خروتشوف الانسحاب بعد حصار أميركي وتهديدات من الرئيس جون كيندي أوصلت العالم إلى شفير الحرب النووية. يرسل أسراب مقاتلات للعمق المصري خلال وبعد حرب الاستنزاف مع إسرائيل يقودها طيارون روس لأن المصريين لم يتموا التدريب على طائرات ميغ المتقدمة بعد تدمير قواتهم الجوية على الأرض في حرب عام 1967، لكنه يفرض على الطيارين صمتا لاسلكيا تاما كي “لا يكتشف” الإسرائيليون أن الروس جزء من الحرب.
قوى عظمى تخاف من بلد مثل إسرائيل. علامات شيخوخة القيادة السوفييتية بدأت من الستينات وليس الثمانينات كما يُعتقد. الزعيم الشيوعي ليونيد بريجنيف كان رمزا للجمود في القيادة، ولكنه لم يكن الرمز الوحيد. المكتب السياسي كان مشروع موات تعاقب على مدى فترة قصيرة لحين وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة وقتله لفكرة الاتحاد السوفييتي نهائيا.
كل هذا شاهده فلاديمير بوتين يوم انهار جدار برلين وكان ضابط استخبارات متوسط المرتبة في برلين. إذا ضاعت مهابة القوى العظمى، فإن الجميع سيتجرأ عليها. يبدأ المجاهدون في أفغانستان، وينهي المتظاهرون في أوروبا الشرقية.
اليوم روسيا تدرك حجم الفراغات الإستراتيجية التي تخلفها الولايات المتحدة في المنطقة خصوصا والغرب بشكل عام. وهي أكثر من مستعدة كي تملأها.
لا تخجل روسيا من إرسال مقاتلاتها وقاصفاتها الإستراتيجية لضرب الأهداف في سوريا وقلب ميزان الحرب. حرب عادلة أم قذرة لا يهم. لماذا؟ لأن ثمة شيئا اسمه إطلالة بلا قيود على المتوسط تتوفر مع هذه الفرصة الإستراتيجية.
من قاعدة حميميم الجوية والقاعدة البحرية في طرطوس أطل الروس على شرق المتوسط. خسارة طائرة مقاتلة أسقطها الأتراك جعلت بوتين يطوع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويقلب طبيعة العلاقة بينهما إستراتيجيا. صار من خلالهم يفكك العلاقات العسكرية في الناتو ويبيع أسلحة روسية متطورة ببعد تجسسي ملموس لثاني أكبر جيش في الناتو. صواريخ أس 400 الآن جزء من منظومة الدفاع للناتو ومعها “كم” خبير روسي يساعد في تدريب الطواقم وتشغيلها.
شرق المتوسط تعبير مطاط. يصل إلى حواف تونس وإيطاليا. بقفزة كان بوتين في ليبيا. تعلم درس المرتزقة من الولايات المتحدة. لديكم شركة بلاكووتر وأنا لدي مجموعة فاغنر. في مكان لا يستطيع أن يرسل فيه الجيش، فإن فاغنر تقوم بالمهمة. ويوم لا يعجبني الترتيب، شركة وتنسحب لا عبء سياسيا أو دبلوماسيا. والمرتزقة خلقوا ليرتكبوا الانتهاكات بلا محاسبة كما تعلمنا من تجربة بلاكووتر.
كان بوتين ينتظر أن ينضج الوضع في الخليج على نار هادئة. حرب جورج بوش في العراق وتفكيكه، ثم عبث باراك أوباما بفكرة ديمقراطية “الربيع العربي” والفوضى التي أعقبتها ثم زلازل دونالد ترامب، وأخيرا جو بايدن رئيس أميركي جديد يستهدف القوى الخليجية المعتدلة، وخصوصا السعودية.
تردد الخليج تاريخيا في استبدال العلاقة مع الغرب بعلاقة مع غير الغرب. الغرب رزمة كاملة: سلاح وحماية وثقافة وتجارة وسوق للنفط. ولكن هل يلام الخليج اليوم على تركه لتمسكه بالغرب؟ الغرب من ترك الخليج وليس العكس. والغرب ترك الخليج في مرحلة خطرة يواجه فيها تهديدات وجودية من إيران. ولزيادة صب الزيت على النار، التخلي كان مع حفلة تشهير إعلامية غير مسبوقة للسعودية من إدارة أميركية لم تتم شهرا في السلطة.
أكثر من هذا أن خليط البدائل متوفر. سلاح متطور من روسيا، وسلع من الصين، وتكنولوجيا صناعية استثنائية من بلدان مثل كوريا الجنوبية قادرة على بناء محطات نووية أفضل من تلك الأميركية، وخدمات من الهند، ومؤخرا تقنيات معلوماتية إسرائيلية تشتريها الولايات المتحدة نفسها من الشركات الإسرائيلية.
القادة الصينيون والهنود والكوريون تحركوا مبكرا، في حين تريث الروس وفرض عصر الإسرائيليين نفسه بحكم التحدي الإيراني.
جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الأخيرة هي استكمال للدخول الإستراتيجي المتدرج للخليج. إذا كانت تركيا تقيم قواعد في الخليج وتتصرف وكأنها دولة خليجية بكامل الحقوق من بوابة قطر، فلماذا لا تتصرف موسكو بوتين بنفس العقلية. ما يخسره بايدن في الخليج يكسبه بوتين.
الدخول الروسي في الخليج سيكون بمواصفات مختلفة، لكنه سيكون ضمن علاقات يخطط لها لكي تدوم. راح زمان الرئيس المصري أنور السادات وهو يطرد الخبراء السوفييت من مصر مطلع السبعينات. الخليجيون مقتنعون اليوم أن المراهنة على الولايات المتحدة فقط هي ما أوصلهم لحالة حرجة من الاستهداف على كل المستويات. الإيراني والحوثي والحركات الموالية لإيران في البحرين وفي المنطقة الشرقية في السعودية، والتنظيمات الإخوانية في كل الخليج، والتهديد من الشمال حيث العراق الذي ضاع لصالح إيران، وعدم استقرار بعض دول المنطقة لأسباب مالية وسياسية، والتدخلات التركية من كل صوب بما فيها من الساحل الأفريقي المحاذي ومن اليمن مؤخرا، كلها عوامل يضعها قادة الخليج نصب أعينهم ويجدون أن روسيا، ربما بشكل استثنائي، يمكن أن تسد بعض الثغرات.
بوتين يعرف هذا جيدا ويتصرف على أساسه. الجيوسياسة لديه الآن تشمل دفء مياه الخليج.