سياسة أردوغان.. من لعبة الأمم إلى ألعوبة الأمم
د. نصر محمد العارف
مثلت انتفاضات الربيع العربي المشؤوم فرصة تاريخية نادرة للسيد رجب أردوغان ليعيد تمثيل سيناريوهات كتاب “لعبة الأمم”، لمؤلفه “مايلز كوبلند” الذي كان صدوره في لندن 1969 ثورة في عالم السياسة الدولية، حين كشف كيف استطاعت أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية أن تحرك العالم على مسرح العرائس من 1947 إلى 1967، وكيف كانت الأمم جميعها مجرد دمى على رقعة شطرنج تتحرك لتحقيق مصالح الكبار الذين يتقنون لعبة الأمم.
ظن أردوغان أنه قادر علي أن يقوم بما قامت به أجهزة إمبراطوريات ودول عريقة تعودت أن تدير الشأن الدولي بحنكة وبعد نظر وهدوء حافظ على وجودها لقرون، فكان أول ما فكر فيه بناء قصر ضخم يتناسب مع حجم الإمبراطورية التي يحلم بها، والتي لم تتأسس بعد، ثم بدأ يتحرك بجنون متميز في مختلف الأقطار العربية التي شهدت انتفاضات، أو توترات داخلية؛ ظناً منه أن مجرد تصدر تنظيم الإخوان الفاشل المشهد في هذه الدول كفيل بتأمين دخولها في طاعته، وانضمامها إلى سلطنته، وجاءت تحركاته رعناء، هوجاء، متغطرسة، متكبرة، فكانت نتائجها تتناسب مع مقدماتها في كارثيتها وفشلها.
كانت البداية في مصر، وظن أردوغان أنها لعبةٌ في يديه حين تولى مندوب مكتب الإرشاد الدكتور محمد مرسي رحمه الله رئاسة مصر، وبمجرد أن زال سراب الإخوان من مصر؛ ظن أردوغان أنه قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فتحول إلى بوق سباب وشتائم وبذاءات ضد مصر وقيادتها.. وفي مقابل ذلك لم تنشغل القيادة المصرية به؛ بل تركته يلهو بالسباب والبذاءات، والأصابع الأربعة وانصرفت إلى توثيق العلاقات مع اليونان وقبرص؛ حتى فاجأته بتوزيع الغاز والنفط في شرق المتوسط بين الدول الثلاث: مصر وقبرص واليونان، واستيقظ أردوغان على كابوس أن مصادر الطاقة في شرق المتوسط قد تم توزيعها، وهو في سكرة لعبة الأمم، فإذا هو مجرد ألعوبة في يد الدول الثلاث، فثار كالمجنون وأرسل سفنا تنقب عن الغاز في مياه شمال قبرص؛ بحجة أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تعترف بها دولها.. وهنا يواجه الاتحاد الأوروبي حلف الأطلنطي.
وكانت سورية هي الساحة التي مارس فيها لعبة الأمم بكل تفاصيلها، فوظف أجهزة مخابراته لجلب كل شذاذ الأفاق من مرضى العقول والقلوب من أنصار داعش والقاعدة إلى سورية، وتآمر مع تجار الدين والوطنية من جماعات المعارضة، وظن أن سورية قد صارت لقمة سائغة توشك أسنانه أن تقضمها.. فإذا بروسيا وإيران تحولانه إلى ألعوبة ساذجة، يتم استدراجها من خلال تنازلات لفظية ودبلوماسية على مستوى التصريحات وبيانات المؤتمرات، ولكن على مستوى الحقيقة كان أردوغان يتقدم من هزيمة إلى هزيمة، ومن خسارة إلى خسارة؛ حتى تم حشر جميع الإرهابيين في سوريا على حدوده في إدلب، وتم تحويلهم إلى قنابل موقوتة ستنفجر في وطنه يوما ما في المستقبل القريب. وعادت سوريا دولة وخسر أردوغان رهاناته، واكتشف أنه مجرد ألعوبة في روسيا وإيران.
وفي لحظة ظن أردوغان أنه قادر على اللعب على الخلافات الروسية الأمريكية، وأنه سوف يتقن لعبة الأمم في الاستفادة منهما، مستغلا التناقضات بينهما، وظن أنه قادر على توظيف قدراته التجارية -حين كان صبياً يبيع عصيرا و”سوبيا” في شوارع إسطنبول– في ابتزاز كل من أمريكا وروسيا، والاستفادة منهما في نفس الوقت، وظن أنه قادر على شراء الأسلحة الهجومية من أمريكا، والدفاعية من روسيا، ولكن نجحت روسيا تحت قيادة المحنك “بوتين” في تحويل أردوغان إلى ألعوبة في يدها؛ ليس فقط في سوريا، وإنما في مواجهة أمريكا وحلف الأطلنطي، ونجح بوتين في توظيف أردوغان في إضعاف حلف الأطلنطي، أو على الأقل توتير العلاقة بين تركيا من جانب، وأمريكا والحلف من جانب آخر، وكانت النتيجة أن خسر أردوغان علاقاته العسكرية ومن ثم الاستراتيجية مع أمريكا وحلف الأطلنطي، ولم يحصل من روسيا إلا على صفقة صواريخ واحدة، وخسارة كل مصالحه في سوريا.
ظن أردوغان أنه قادر على أن يطبق استراتيجيات لعبة الأمم بين إيران والعرب، فقدم نفسه على أنه زعيم السنة، وفي نفس الوقت كان العميل الاقتصادي الأول لإيران في مواجهة العقوبات الدولية، فخسر العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، ولم يحصل من إيران إلا على بعض المنافع الاقتصادية من السلع المهربة، ونجحت إيران في اللعب بأردوغان في سورية؛ فأخرجته منهما مهزوماً مدحوراً هو وكل تجار الدين والوطنية الذين وظفهم لتدمير الدولة السورية، ولم يحصل أردوغان في المقابل من إيران على شيء سوى الخسران المبين.
أردوغان نموذج مثالي للجهل والغرور والغدر؛ وهو ما يتميز به تنظيم الإخوان الفاشل، الذي قاد دولته إلى كل مواطن الفشل دولياً، وإقليماً، ومحلياً، فخسر حلفاءه في الغرب، وخسر جيرانه في الإقليم، وخسر معظم مكونات شعبه، ونجح في أن يصبح مثالا متميزا لما يمكن أن يسمى “ألعوبة الأمم”.