شبح فيتنام يحوم فوق الجامعات الأميركية
دلال البزري
عادت فيتنام مع جامعة كولومبيا الأميركية. نُبِشت الذاكرة، وحضرت ستينيات القرن الماضي وسبعينياته. في تلك الجامعة بالذات، في عام 1968، أطلق الطلاب حركة احتجاج من حرم جامعتهم ضدّ الحرب التي تخوضُها بلادهم على فيتنام. وبعد أسبوع، انتشرت الحركة في جميع الجامعات الأميركية، ثمّ خرجت من أسوارها. استمرّت الاحتجاجات على وقع أهوال هذه الحرب. وضمّت في صفوفها مروحة واسعة من الفئات؛ الحركة المدنية السوداء، وقد اغتيل زعيمُها مارتن لوثر كينغ في بداياتها، ومعها نسوياتٌ ومحامون وأطبّاء، وصحافيون، و”هيبيّون”، وحركات معادية للاستعمار ولأصناف الحروب كافّة. وكانت هذه الفئة الأخيرة منتشرة في أوساط الجيش الأميركي، الذي عرف حالات فرار جماعية من الخدمة، استقبلت السويد خمسين ألفاً منهم.
يتذكّر الروائي الأميركي بول أوستر تلك الفترة ويكتب: “في عام 1968 كنّا واعين جدّياً بما يحصل في باقي أنحاء العالم. فبعد أسابيع على الاحتجاجات الطلابية الأميركية، انطلق إضراب عام في باريس، ويافطة مكتوب عليها: كولومبيا – باريس”. ولكنّ بول أوستر لا يرى أنّ حركة فيتنام الأميركية تجاوزت ثورة الطلاب الفرنسيين، وإن غذّتها هذه الأخيرة بروافدها. في تشكوسلوفاكيا مثلاً، كانت التظاهرات الشعبية العارمة ضدّ العسكر السوفييتي المُحتَلّ لأراضيها، ومطلبها “نريد اشتراكية ذات وجه إنساني”، وقد ذاع هذا المطلب في جميع البلدان الرازحة تحت الحكم السوفييتي، وفي إيطاليا كذلك، حيث انضمّ الطلاب إلى العمّال للمرة الأولى، وافتتحوا معاً عهد المعارك المشتركة. أما العالم الذي كان “ثالثاً” وقتها، والعربي منه خصوصاً، فقد كان يغلي. كانت حرب 1967 قد انتهت، وكَرَّسَتْ فكرة فشل الجيوش العربية وهزيمتها، وصَعَدَتْ أخرى أكثر جذريةً منها؛ حرب التحرير الشعبية، الكفيلة وحدها بإزالة الاحتلال الإسرائيلي. تناغمت معها الأنظمة المعادية لعبد الناصر، وكان شعارها هي الأخرى “الصمود والتصدي” ضدّ إسرائيل. استقلال الجزائر، مع شهدائها المليون، غذّى هذه الفكرة، التي شجّعت حرب استنزاف بين إسرائيل ومصر، وانتهت بحرب أكتوبر (1973).
ولكنّ التفاعل مع الحركة المعادية للحرب الأميركية ضدّ فيتنام، وتفاعل الحركات الطلابية الأوروبية معها، الفرنسية منها بشكل خاص، ضخّ أيضاً أفكاراً وسلوكياتٍ وحزبياتٍ، تَجْمَعُ بين فيتنام وفلسطين؛ بينها وبين التحرّر من الاستعمار والإمبريالية؛ بينها وبين التحرّر النسوي والنضال الطبقي. تظاهرات بيروت الطلابية، وقتها، تحشد لمطالبها الخاصّة، ولتحرير فلسطين وفيتنام في آن معاً. تصرخ بأعلى صوتها تحيات شخصية إلى قائد حركة التحرّر الفيتنامية هوشي منه (1969)، ووزير الدفاع في الحكومة الثورية، الجنرال فو نجوين جياب (2013)، المنتصر على الجيش الأميركي، ومن قبله الجيش الفرنسي، الذي احتلّ الهند الصينية بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية. شباب أميركا، آنذاك، أخذوا على حكومة بلادهم خوضها حرباً بعيدة، خاسرة، تهزمها الصور الآتية من الميدان، وينال أصحابها الجوائز الرفيعة، بسبب قدرتها على إشعال الرأي العام ضدّها. منها صورة القس البوذي الذي يشعل النار في نفسه احتجاجاً على الاحتلال الأميركي أو صورة تلك البنت الصغيرة الراكضة وسط أقرانها، ونار “النابالم” مشتعلة في جسدها كلّه، وجنود أميركيون يواصلون جولتهم، من دون إلقاء نظرةٍ عليها.
اليوم، تعيد حركة الجامعات الأميركية، أيضاً، إلى المشهد شخصيةً كانت محورية انخرطت فيها، ونظّرت لها، ودخلت السجن بسببها؛ أنجيلا دايفيس، البالغة من العمر اليوم 80 عاماً، تتحدث عن انتفاضة هذه الجامعات. تُذكّرنا بأنّها كانت عضوة في منظّمات عديدة؛ الحزب الشيوعي الأميركي، الفهود السود، اتحاد الطلاب الألمان الاشتراكيين… إلخ. تلخّص دايفيس موبقات الوضع الراهن؛ الاستعمار، العنصرية، البطريركية. تُعبّر عن سعادتها باشتراك السود في هذه الحركة، وتقول: “إنّ التضامن مع الفلسطينيين ونضالهم، خلال عشرات السنوات الماضية، من أجل أرضهم وثقافتهم وحرّيتهم، هو من زمن طويل ثيمة محوريّة في حياتي السياسية”. وتروي قصّة الرسائل التي كانت تصلها في سجنها الأميركي من سجناء فلسطينيين، وكيف أنّها التقت أحدهم يوماً في أميركا.
الآن، كلّنا تابعنا انطلاق الحركة من جامعة كولومبيا، والقمع والاعتقالات وتدمير الخيام، التي انتشرت في عدد لم يَعدْ يُحصى من الجامعات الأميركية، وفي جامعات فرنسية، وأسترالية، حتّى اللحظة. واضح أيضاً أنّ الحكم الأميركي لا يريد لها هذا الانتشار، فهو أخطر ممّا كان عليه في ستينيات القرن الماضي. إنّه يهزّ سياسة إسرائيلية أميركية تاريخية، توصَف بـ”العضوية”، تتشابك فيها المصالح والمصانع العسكرية والاستراتيجيات، مع أفعال إيمان راسخة، وحركات دينية متعصّبة. يقول الطلاب المُنْتَفِضُون إنّ الموضوع ليس “مجرّد سياسة خارجية”؛ إنّهم شهود على إبادة يشجّعها الرئيس الأميركي، الذين اقترعوا له، فغشّهم. وكلما زاد عدد الضحايا في غزّة، وغابت أفق الحلول، يشعرون بأنّهم شخصياً معنّيون. يتظاهرون ضدّ استثمارات جامعاتهم في مؤسسات تساهم في الجهود الحربية الإسرائيلية. ويلتقون مع “عصر فيتنام” في أنّ حكومتهم تساهم في حرب خاسرة، لا أفق لها على الإطلاق. الحركة لم تَنْطَلِقْ من عدم. خَلْفُهَا أكثر من مائة مجموعة طلابية، تضمّ سوداً وعرباً وفلسطينيين، ومسلمين ويهوداً. كما في فيتنام، تسبقها انتفاضات قصيرة، مثل “احتلّوا وول ستريت”، ضدّ السياسات المالية للمصارف الأميركية، وحركة حياة السود مُهمّة، المعادية للعنصرية، إثر مقتل شاب أسود على يد الشرطة اعتباطاً، والحركة المعادية لحمل السلاح، والحركة النسوية والبيئية… إلخ. أيّ أنّ طلاب الجامعات الأميركية وجدوا في القضية الفلسطينية عاملاً مُوحّدَاً ومُفَجّرَاً لجملة من القضايا الأخرى، تمنح عدالتها كلَّ صاحب حقّ الانضمام إلى من يباركها ويتضامن معها.
تتفوّق حركة اليوم على حركة فيتنام بوفرة صورها، وشرائطها اليوتيوبية، ومشيعيها على مواقع التواصل، وفيض متابعيها ومُحلّليها ومُروّجيها، وبضخامة قدرتها الإعلامية، وبسرعة انتشار دعواتها حول العالم بأسره. تلتقي مع حركة فيتنام في أنّ لها قضية مركزية؛ وقف الدعم الأميركي لإسرائيل، ولكنّها تعطي الآن الأولوية لفلسطين، وحولها القضايا “الفرعية” الأخرى. وأيضاً، في أنّها بدأت تتجاوز حدودها الوطنية لتنتشر في جامعات غير أميركية. ولكن هناك فرقاً بين الاثنين: في زمن فيتنام كانت روح العصر مختلفة، كان العالم واضحاً بانقسامه بين رجعي، إمبريالي، صهيوني، وآخر توّاق إلى الحرّية، واحد لا يشذّ عن القاعدة. أصحاب الحقّ هم جسم واحد.. اتجاه واحد.
كيف يمكن اليوم لحركة الطلاب أن تنتشر أينما كان عندما تكون القسمة القديمة أصبحت تداخلاً وتشابكاً واختلاطاً للمعايير، بين مطالب الحرّية وحركات اليمين المتطرّف والشعبوية والإسلام السياسي؟ ويسار منقسم بين مُنْقاد إلى هذا الإسلام السياسي ومناهض له؟ وإذا حاولت تحديد روح العصر، لن يكون المرجع ذاك الذي عاصَرَتْه حرب فيتنام، إنما خليط مُعقَّد من الاستثناءات. خذْ مثلاً محور الممانعة الناشط على الخطّ اليومي لهذه الحرب، تدخل حساباته السلطوية مع لغته ومناوراته الفلسطينية، فلا تعود تفهم إنّ كانت هذه الحركات ترنو إلى التحرّر أم إلى العبودية. كذلك الأمر بالنسبة لأوكرانيا. كيف يمكن للمرء أن يكون مع تحرير فلسطين، وضدّ تحرير أوكرانيا، فينضم إلى اللسان الروسي المؤيّد لبوتين، ولفلسطين في الوقت عينه؟ أو بشّار الأسد. كيف تقاتل من أجله، وتقاتل من أجل فلسطين؟ أو كيف يكون نظام يعدم شعبه صارخاً ضدّ الإمبريالية والصهيونية، من دون أيّ تكذيب؟ أمّا الجامعات العربية التي يُنتظر من بعضها تفاعلٌ شبيه بذاك الذي عرفته وقت فيتنام، فهي قابعة في سريرتها. إنّها مقموعة بلطف وبعنف. واقعة وسط الفوضى والألغاز.