شورى الزيف في قطر
علي الصراف
حاجة قطر إلى مجلس شورى أشبه بحاجة ثري إلى سيارة جديدة، إلا أنه أرادها هذه المرة سيارة من دون عجلات.
لم يكن القطريون منشغلين، حقيقة، بما إذا كانوا بحاجة إلى “مجلس شورى” أو لا، فالوسائل التقليدية لإيصال المطالب، ولسماع القول، متاحة إذا كان المطلب أو القول باردا، أي من النوع الذي لا يخرج عن تلبية احتياجات يمكن ردمها بالمال. عدا ذلك “فالأمور ماشية” من دون أن يطلب أحد من أمير البلاد شيئا من صلاحياته، ومن دون أن يُخضع سياساته الداخلية أو الخارجية للمساءلة.
“الشورى” القطري بدا وكأنه هو مجلس زينة، ليس لأن الديمقراطية أصبحت ضرورة من ضرورات تسيير الأمور، بل لكي تظهر قطر بأزياء وزينة تتلاءم مع توقعات العالم المعاصر، حتى ولو كانت لا تتلاءم مع توقعاتها هي نفسها.
ممارسة الديمقراطية كمظاهر، أو كعمل من أعمال الزيف، ضارة من ناحيتين على الأقل: الأولى هي أنها توهم الناس بشيء غير موجود. والثانية، هي أنها تحرف الأنظار عما يتعين التبصر فيه.
هناك تمييز قبلي في قطر. وهناك مواطنون على درجتين أولى وثانية. وهناك أصحاب امتيازات خارقة للطبيعة. ولئن لم يكن هناك فقر بالمعنى المعروف في العالم، إلا أن هناك فقرا بالمعنى النسبي ناجما في الأصل عن انعدام المساواة في الحقوق والامتيازات القبلية.
ولكن هذا ليس سوى نصف المشكلة. النصف الآخر هو أن قطر تمتلك موارد هائلة ولا تحسن توظيفها لا في خدمة شعبها، ولا في خدمة أحد.
العصبية القبلية التي ندد بها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في خطابه أمام المجلس هي معضلة من معضلات السياسة الخارجية القطرية مع العديد من دول المنطقة. إذ لا توجد حاجة إلى المزيد من الأدلة على أن قطر ظلت تدعم وتمول تنظيمات وأحزابا من قاع جهنم في إنتاج العصبيات الطائفية (حزب الله في لبنان)، والعصبيات الثورية (الحرس الثوري الإيراني)، والعصبيات الولائية الإيرانية (الحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن)، والعصبيات الإرهابية (تنظيمات سوريا) وعصبيات الإسلام السياسي (تنظيمات الإخوان المسلمين في مصر وليبيا وغيرها)، وأخيرا عصبيات التوسع الإقليمي على حساب مصالح دول المنطقة العربية (التحالف مع إيران وتركيا).
حتى الزيف لا يمكنه أن يتحدث بلغتين على النحو الذي أدان به الشيخ تميم العصبية القبلية في دولته، بينما دولته تمارس ضد شعوب المنطقة كل أنماط العصبيات وتدعمها بالمال والسلاح والدعاية. وظلت تنفق عليها ما وصل إلى مئات المليارات من دون أن يسأله أحد أو أن يسأل نفسه: إلى أين أنت ذاهب؟
الاستثمارات القطرية في الخارج ليست هي الأخرى مما يخضع للتدقيق أو المساءلة. مئات أخرى من المليارات تتفرق وفقا لضابط واحد، هو أنها من دون ضوابط، مما يجعلها تمضي في إطار “استراتيجي” وهمي لا يوفر لقطر شيئا أبعد من مجرد العائد المادي لنمو قيمة الشركات التي توضع الاستثمارات فيها.
علاقة قطر بالمال سيئة للغاية. إنها علاقة رجل يجلس على تلال من الأموال ويفرقها في كل اتجاه، من دون وعي، ومن دون اشتراطات تقصد وضع حجر آخر فوق حجر المال.
شراء شركات، أو شراء أسهم في شركات غربية يمكنه أن يجعل من حافظة الاستثمار تبدو غنية ومترعة بالعوائد. ولكن لا يوجد وهم أكبر من هذا. من ناحية، لأن الاستثمار في شركات أصلح للأفراد ولشركات مماثلة، وليس لدولة. معايير الدولة تختلف. إنها أعلى بكثير من مجرد توظيف المال للحصول على مال أكثر. ومن ناحية أخرى، لأن الاستثمار على النحو الذي تمارسه قطر وبعض دول الخليج الأخرى مثل الكويت لا يضمنه ضامن على الإطلاق، لاسيما وأنه استثمار من دون بنية استثمارية محلية تدعمه.
قد يحتاج الأمر إلى بعض الإيضاح. الكويت على سبيل المثال ذهبت ذات يوم لتشتري أسهما في “بريتش بتروليوم”. بعد سجال حول حجم الاستثمار المسموح به، استقرت حصة الكويت على 9 في المئة لكي لا يكون لها مقعد في مجلس الإدارة. جاءت حرب الخليج الأولى، فاضطرت الكويت إلى بيع نحو ثلثي حصتها. وفي العام 2005 باعت باقي الأسهم. نظريا حققت الكويت أرباحا من بيع تلك الأسهم. ولكن الأرباح والأسهم ذهبت لتغطية تكاليف أزمة تم اختلاقها للكويت ولدول الخليج الأخرى، وللعراق طبعا.
لا يمكن اختلاق أزمة لأفراد أو لشركات محلية لغرض سلب المال منها. ولكن يمكن اختلاق أزمة لأي دولة، لكي تبيع ما تملك، وتدفع ثمن الخروج منها.
هل لاحظت أين يكمن الفرق بين استثمارات الأفراد في شركات، وبين استثمارات دولة؟ هل لاحظت أين يكمن سوء الفهم في توظيف المال؟
الدول الكبرى لا تتصارع مع أفراد، من مواطنيها خاصة. ولكنها تتصارع مع دول أخرى لكي تأخذ منها كل ما تستطيع أخذه، بالابتزاز أحيانا، وبالقوة أحيانا أخرى. والدول، من أمثال دولنا التي لا تنتسب إلى عالم الغرب، لا ثقافيا ولا دينيا ولا عنصريا، عندما تستثمر أموالها هناك، فهي إنما تلعب بها قمارا.
وعلى الرغم من أن الكويت دولة نفطية، إلا أن استثمارها في “بريتش بتروليوم” كان مجرد استثمار لشراء أسهم، وليس لبناء وشائج لا غنى عنها بين الطرفين.
دول خليجية أخرى ظلت تفعل الشيء نفسه، مع الأسف بدافع الغيرة، حتى انتهجت السعودية والإمارات استدراكا يقلب هذا المنهج رأسا على عقب: أولا، بالاستثمار المحلي. وثانيا باستثمارات العمران الاقتصادي والتنموي في دول الجوار.
قطر التي تستثمر في تنظيمات العصبيات الثورية والجهادية والإرهابية وتستثمر في تحالفات عدوانية، وتستثمر في شركات غربية على غرار ما ظلت الكويت تفعله حتى الآن، بمقدار هائل من عمى البصر والبصيرة، تبدو كمن يستثمر في جهنم من أجل الذهاب سريعا إلى جهنم. وما من أحد في مجلس شورى قطر يمكنه أن يسأل أمير البلاد: إلى أين أنت ذاهب بهذا البلد؟