شيء مما جلبه الرئيس عباس لنفسه
صنع الرئيس محمود عباس بنفسه ما يُجيز، أو يستوجب، تعرضه للإهانة. واضح من كلام حسين الشيخ، وهو أحد أقرب مقربيه، أن عباس لا يقود “منظمة تحرير”. إنه يقود عصابة تتنافس على النفوذ. ولو أن هذا “النفوذ” كان في بلد مستقل، لكانت “نص مصيبة”. ولكنها أراض تحت سلطة احتلال شرس.
قد لا يكون هذا الاحتلال شرسا على القيادة التي تحيط بعباس، إلا أنه شرس على الشعب الفلسطيني. هذا الشعب يعرف جيدا أنه بلا قائد. بلا قيادة. وبلا مؤسسة وطنية تستجمع الإمكانيات وتنظر في الخيارات وتحدد مسارات العمل من أجل الحرية. هذا الأمر يجعل كل ما قد يتعرض له عباس من الشتائم مديحا، لأنها أهون من واقع الحال الذي يفرضه هو على شعبه.
لقد سقط النقاش السياسي، وانحدر إلى المستوى الذي اختاره عباس. سقط حوار الأفكار. سقط البحث عن إستراتيجيات وخيارات وطنية بديلة. وانهار جدار الحياء في التخاطب. فأصبحت اللغة الوقحة والقبيحة هي البديل، حتى بين أقرب المقربين. وهي تكشف، في الواقع، عن طبيعة “المتداول” داخل القيادة الفلسطينية. ليتضح أنه متداول شوارعي، لا صلة له بالسياسة، ولا بالتفكير، ولا بالقضية الوطنية كمحنة تتطلب انشغالا بما هو أبعد من المناصب.
القول إن “أبومازن ابن ستة وستين شـ…” لا يتناسب مع الواقع، لأنه لا توجد واحدة من أولئك الستة والستين ترضى به ابنا. إنه عار حتى عليهن. ولا ظلم في ذلك. فالعار إنما يتعلق بنتائج أعمال 18 عاما أمضاها عباس في السلطة. ويحق لكل فلسطيني وفلسطينية أن يسأل عباس: كيف جاز أن يبقى رئيسا على كل ما جناه من الفشل؟ كيف جاز أن يبقى يراهن على ما راهن عليه، وهو يرى أن الاحتلال يتوسع، وأن مسار المفاوضات لم يكن موضوعا بالنسبة إلى إسرائيل، وأن الانتهاكات الإسرائيلية تتعاظم، حتى أصبح القتل اليومي جزءا من مألوف الحياة في الأراضي الفلسطينية الخاضعة لسلطته!
ماذا تقول للعار، من بعد ذلك، لكي يخجل من نفسه؟ ماذا تقول له إذا لم يخجل؟
يقود الرئيس عباس سلطة للمغانم، تحت الاحتلال، وللتنسيق الأمني مع هذا الاحتلال. هذا هو دورها الوحيد. وعلى الرغم من أنه ظل يتوعد بإلغاء التزامات سلطته الأمنية مع إسرائيل، عقب كل جريمة، وبرغم كل ما صنعته دائرته الخاصة من قرارات في هذا الخصوص، إلا أنه مسح بها الحائط، ولم يخجل.
لماذا؟ لأنه لا يعرف ماذا يفعل من بعد توقف التنسيق الأمني. يعرف، كما تعرف القيادة المحيطة به، أنه لن يعود لديها شغل تشتغل به. أو قد تصبح عرضة للاعتقالات فيضيع عليها ما جنته من منافع.
والغاية الوحيدة للتنسيق الأمني هي حماية إسرائيل من الشعب الفلسطيني، وليس حماية الشعب الفلسطيني من إسرائيل، أو توفير علاقة أمن متوازنة. قوات الاحتلال لم تتوقف، ولا حتى ليوم واحد، عن مطاردة النشطاء الفلسطينيين. وأجهزة مخابرات عباس، كما يعرف الفتحاويون أنفسهم، هي التي تقدم الإسناد والمعلومات عن تحركات وأماكن وجود “المطلوبين”. حتى قاد الأمر إلى الوقوف على حافة مواجهات مسلحة بين “شهداء الأقصى” وبين المؤسسة الأمنية التي يقودها عباس.
هذه المؤسسة، هي في الواقع جزء من قوة الاحتلال. إنها احتلال إضافي.
تنظيم “عرين الأسود” لم ينشأ إلا ردا على أعمال الخيانة التي تمارسها قيادة فتح ضد عناصر فتح. فالسلطة الأمنية التي لم تكف عن تقديم المعلومات لإسرائيل عن نشطاء حركة فتح، هي التي أجبرت شبانا لا يرتبطون بالحركة، ولا بأي تنظيم آخر، على أن يكونوا حركة شهداء يشقون الطريق لمقاومة الاحتلال، فرادى، واحدا بعد واحد، من قبل أن تطالهم يد مخابرات الرئيس عباس.
اذهب لتسأل أي واحدة من تلك “الستة وستين…” إن كانت ترضى بهذا المستوى من الجريمة ضد القضية الوطنية، وضد مقاوميها، وضد شبان بعمر الزهور يقضون برصاص الاحتلال وغاراته ضد المخيمات والبلدات الفلسطينية، تحت سمع وبصر “قيادته الوطنية” المزيفة.
الانتهاكات التي تمارسها سلطة الرئيس عباس ضد معارضيها، فضيحة قائمة بذاتها. هناك فشل واضح في إدارة الصراع مع إسرائيل، وكذلك في إدارة شؤون السلطة الفلسطينية، وكذلك في إدارة مؤسسات “الدولة” لتقترن بقيم ومعايير. وهي مثال صارخ على جمود السياسة، بل عقمها. ولولا بعض البيانات التي تصلح لكل زمان ومكان، ما كان لأحد أن يعرف كيف تتثاءب هذه السلطة. ووجود معارضة أمر طبيعي للغاية في هذه الظروف. إنها شيء مفيد، من جهتين اثنتين على الأقل. الأولى، لأنها تستنهض الجدل، فيكسب الأفضل، وينير الطريق. والثانية، لأنها تشكل عامل ضغط غير مباشر على الاحتلال، فتخبره بأن هناك خيارات بديلة إن لم تنفع خيارات السلطة.
الحاكم الرشيد يرعى معارضته ويستفيد منها. ولكن الرشد غاب عن عباس منذ أن بدأت سلطته برفع الهراوة ضد الفلسطينيين. شعب يبحث عن حريته، لا يُقمع ولا تُرفع ضده الهراوات، فيُسجن من يُسجن ويُقتل من يُقتل، كما جرى مع الشهيد نزار بنات وغيره.
ولو كانت سلطة الرئيس عباس تعرف ما هو العيب، لعابت على نفسها أن تفعل ذلك، ولتوقفت عنه، ولاعتذرت. وللطم الرئيس على رأسه، خشية من أنه صار جلادا، بدلا من أن يكون رئيسا لقضية حرية أو تحرير.
وجوده في السلطة، وتمسكه بها، وعرقلته للانتخابات، وحرصه على بقاء الانقسام، عار آخر. لم يدرك الرئيس عباس، ولا المحيطون به، كم أنه خطير، وكم أنه يشكل تهديدا لمبدأ الحاجة لوجود “دولة” فلسطينية مستقلة، ولمعنى الحاجة إلى سلام عادل يرعى حقوق ومصالح الفلسطينيين. فالسلطة التي لا ترعى حقوق شعبها، كيف يمكنها أن تدافع عن هذه الحقوق مع إسرائيل؟ والسلطة التي لا تحترم حق شعبها في الاختيار الحر لقيادتها، كيف تريد أن تحظى هي نفسها بالاحترام من جانب الذين تريد التفاوض معهم؟ والسلطة التي تمارس القمع ضد شعبها، كيف يمكنها أن تدين ما يمارسه الاحتلال من انتهاكات؟ كيف يمكنها أن تطالب بعدالة، هي نفسها لا تمارسها؟ والسلطة التي لا تحترم القانون في العلاقة مع شعبها، كيف تريد من المجتمع الدولي أن يحترم قوانينه معها؟
كل هذه مفارقات تدفع إلى الشعور بالخجل. إلا أن الرئيس عباس لم يشعر به، لأنه، بما تجمد في عروقه من استخذاء للاحتلال، وعجز عن اتخاذ القرار السياسي والأخلاقي السليم، بات عديم الشعور.
ولو أنك شتمته، ورفعت شتيمته مع كل أذان، فإنه لن يحس. وحيث أنه لم يعد يعرف كيف يبقى على سطح الاهتمام، فربما وجد في توجيه الشتائم له تذكيرا بأنه موجود. فإن لم يشتمه أحد، صنع من يشتمه.
الشتائم تنفيسٌ عن ضيق شخصي شديد. إلا أنها لا تُنفّس شيئا مما يعانيه الفلسطينيون. لن ترد لهم حقوقهم. ولن تعوضهم عن شبر مما فقدوه.
هناك حاجة لشيء آخر؛ شيء يقلب الطاولة كلها على بعضها.