صيف حقوقي ساخن في المنطقة العربية
محمد أبو الفضل
يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن كانت بحاجة إلى نحو ستة أشهر لبلورة رؤيتها بشأن تعاملها مع ملف حقوق الإنسان الذي كان أحد الشعارات الرئيسية في الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي، ما أثلج قلوب من اعتقدوا أن بايدن سيكرر دبلوماسية الرئيس الأسبق باراك أوباما في توظيف هذا الملف سياسيا، وأثار غضب من اعتقدوا أنهم قد يكونوا من المستهدفين.
مرت الأشهر الماضية دون تصورات واضحة للطريق الذي تسلكه واشنطن، بما جعل المعادلة تبدو على وشك أن تتغير، حيث قلق الفريق الأول الذي بدا رهانه في مهب الريح، وارتاح الفريق الثاني لتبدد ما تولّد لديه من إحباط.
جاءت رسالة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى دبلوماسيّي بلاده الجمعة لتمنح دفعة قوية لإعطاء أولوية لتعزيز قيم حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية في السياسة الخارجية في كل مكان بشكل يخدم “المصالح الوطنية الأميركية” مباشرة.
يشير خروج الرسالة إلى النور في هذا التوقيت إلى أن واشنطن حسمت ارتباكها في التوفيق بين ما تتشدق به من معايير إنسانية نبيلة وبين أهدافها الاستراتيجية المتنوعة، ويوحي خطاب بلينكن إلى سفراء الولايات المتحدة أخيرا بأن إدارة جو بايدن قادرة على إيجاد صيغة تحقق أغراضها ومصالحها.
وينطوي هذا الاتجاه أيضا على إشارة تفيد بتوقع صيف ساخن مع بعض الدول التي تضعها واشنطن على قائمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان أو التي تضرب عرض الحائط بقيمها، ما يفتح الباب لمناقشة قضايا قديمة مع من ترى أنهم أصدقاء أو حلفاء.
شملت رسالة بلينكن دعم الحركات الناشطة من أجل الإصلاح الديمقراطي في الدول ذات الأهمية الاستراتيجية لواشنطن، وشركاء الولايات المتحدة المقربين، وتزويد المواطنين بالوسائل اللازمة لمكافحة تقنيات المراقبة وزيادة وصولهم إلى المعلومات، ما يعني القفز فوق أيّ حواجز تقنية وكسر مفعول الأدوات التي تحتكرها بعض الحكومات العربية في التضييق التكنولوجي.
يؤكد المضمون الذي حوته رسالة بلينكن أن واشنطن لن تتردد في فتح قضايا حقوقية متباينة مهما بلغت درجة المصالح مع الدول الأخرى، بل يمكن أن تستخدم أو تلوّح بسلاح العقوبات للدول التي تضبط منتهكة لحقوق الإنسان أو لا تطبق إرشاداتها في مسألة التطور الديمقراطي، بما يفضي إلى اشتباكات سياسية مع بعض الدول العربية.
لم تستأنف الإدارة الأميركية رحلتها مع هذا الملف بناء على تقييم موضوعي احتاج هذه الفترة للتعرف على حالة حقوق الإنسان في الدول المختلفة، لكن لأن واشنطن وجدت نفسها دونه يمكن أن تفقد أهم ورقة تمكنها من ممارسة ضغوط كبيرة على بعض الدول، كما أن بايدن لم يظهر كرامات سياسية بعيدا عن هذا الملف في المنطقة.
استغرق الرجل هذه المدة ليكتشف أن سياسته الخارجية عرجاء دون الاعتماد على حقوق الإنسان من ناحيتي التناقض في محتوى الخطاب القيمي ومستوى التطبيق، والعجز الفاضح في تحقيق تقدم ملموس يثبت أن إدارته لديها من القوة الرمزية ما يمكّنها من فرض سطوتها دون هذا الملف الحيوي.
تؤدي هذه العودة إلى فتح جراح عديدة من القضايا الحقوقية التي تصورت بعض الدول أن بايدن قرر تخفيف الاعتماد عليها، وأنه لن يكرر تجربة أوباما الذي وضع عليها جانبا كبيرا من سياساته دون أن يحقق أيّ منها، فقد كان تطبيقها انتقائيا ويعمل لخدمة تيار بعينه، رأى أن صعوده ضرورة أميركية.
يبدو أن أصابع أوباما وحاشيته المنتشرة في أركان إدارة بايدن، وبينهم بلينكن، تمكنت من فرض كلمتها في هذا الملف، الأمر الذي دفع وزير الخارجية إلى تعميم رسالته السابقة، مغلقة بموضوعية، إذ لم ينكر أن هناك عيوبا في هذا الملف بالداخل الأميركي، وكما تنتقد بلاده الآخرين فعليها أن تتقبل نقدهم أيضا، في محاولة لوقف اتهام بايدن بالشيزوفرينيا، وتسهيل ممارسة ضغوط حقوقية كأحد أهم منظومة حزبه.
تستهدف المنظومة دولا مثل روسيا والصين وإيران، غير أن تأثيراتها سوف تظل محدودة لأن هذه الدول أصلا لا تنصاع للمفردات والمعاني الخاصة بالديمقراطية، وتضرب عرض الحائط بثوابتها الغربية، وحتى التلويح بفرض عقوبات جديدة لن يكون مجديا، فهي بالفعل تتعرض لضغوط من خلال هذا السلاح ولم تغيّر مواقفها أو تنتبه لتحسين فضاءاتها السياسية وتتبنى إصلاحات على الطريقة الأميركية.
ينحصر الاستهداف والتأثير الفعلي على تركيا، وبعض الدول العربية، مثل السعودية ومصر، وتتبنى كل منها رؤية تحتفظ لنفسها بمساحة من الخصوصية تجعلها بعيدة عن الولايات المتحدة في هذا المجال، وأدى التخلي نسبيا عن سلاح حقوق الإنسان إلى تمكين هذه الدول من تمتين علاقاتها مع قوى تراها واشنطن في مقدمة خصومها.
يقود الكشف عن فحوى العودة إلى التموضع في فضاء الديمقراطية إلى منح المعارضة في المنطقة العربية دفعة افتقدت لها كثيرا خلال فترة حكم دونالد ترامب، وكادت تفقد الأمل في إدارة بايدن التي لم تظهر حماسا عمليا يتناسب مع تصوراتها المعلنة سلفا.
من أشد القوى طربا لرسالة بلينكن جماعة الإخوان التي فقدت بريقها وتعرضت إلى تطويق كبير في غالبية الدول العربية، خاصة بعد أن فقدت جانبا من مجالها الحيوي في العديد من الدول الأوروبية في ظل إجراءات تقويض متشابكة تتعرض لها عناصر الجماعة عقب ثبوت تورطها في جرائم عنف وارتباطها بحركات تمارس الإرهاب وتتخذ منها ستارا لمداراته.
يمثل التركيز على ملف حقوق الإنسان حبل إنقاذ لكثير من القوى المدنية في المنطقة التي تراجع دورها وسط ما تتعرض له من حملات تضييق على أنشطتها، والتي يمكن ربط ازدهارها أو انكماشها بدرجة اهتمام الولايات المتحدة بالملف الحقوقي وشعاراته، فكلما زاد صمتها وخفت صوتها ارتفعت الضغوط عليها والعكس صحيح.
من المتوقع أن تقترب إدارة بايدن بحذر من هذا الملف وتتجنب أن تصب انتقاداتها المعتادة في خانة جماعة الإخوان فقط، وقد ينصب تركيزها على القوى المدنية بأطيافها المختلفة ولن يكون خطابها مكررا في إطار المعزوفة السابقة التي جنى غالبية ثمارها التيار الإسلامي في البداية ثم سرعان ما تبين أنه يملك وجوها عدة أدت عملية تقليص حركته إلى تعاطف شعبي مع كثير من الحكومات.
إذا استخدمت إدارة بايدن سياسة رشيدة ولم تُخضع هذا السلاح لحسابات المصالح سوف تتجنب الصدام المحتمل مع بعض أصدقائها في المنطقة العربية، وإذا أعادت إنتاج سيناريو أوباما وما حواه من مراوغات لن تتقدم خطوة في مجال الحفاظ على حقوق الإنسان، فلدى الدول المستهدفة ما يمكنها من الممانعة والمقاومة.