طالبان ونساء الأفغان
ما أن ترغب في سبر أغوار العقدة الأفغانية إلا وتجد كتاب “طالبان: الإسلام المتشدد، والبترول، والأصولية في آسيا الوسطى” للصحافي الباكستاني أحمد رشيد، دليلك الإلزامي لمعرفة ما جرى ويجري، وما هو متوقع حدوثه في هذا البلد، فلا يعتبر أحمد رشيد خبيراً في الشأن الأفغاني والباكستاني وعلاقاتهما المشتبكة بأميركا فحسب، بل هو خبير في شؤون الدول المجاورة لأفغانستان، وشؤون مجمل آسيا الوسطى.
وعلى رغم صدور الكتاب في مارس (آذار) 2001، فإنني قرأته قبل عامين فيما كنت أتابع المشهد الأفغاني، وتساقط حكومات الدمى بعد قرابة 20 عاماً من فرض الغرب بقيادة أميركا لرؤيته للتحديث في المجتمع الأفغاني التقليدي العصي عن التحديث، متناسين ما قاله رشيد مع سقوط نظام طالبان الأول، بأن أفغانستان كالأفغان أنفسهم بلد التناقضات المذهلة، الذي سيطرت عليه رؤية قروسطية للخطاب الديني باتت معه تشكل حاضنة للإرهاب، وتهديداً للاستقرار الداخلي والإقليمي والدولي.
ولم يلق العالم بالاً لتلك الرسائل الكثيرة المهمة التي عرضها أحمد رشيد حول أخطار الخطاب الجاهل لطالبان، الذي حول الإسلام من عامل توحيد إلى سلاح مهلك بيد المتطرفين، وورقة للقتل والرعب والإرهاب، حتى جاءت أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، فكانت طالبان والقاعدة وداعش والنصرة والشباب وبوكو حرام وهلم جرا. وكانت المرأة على رأس قائمة المستهدفين بهذا الخطاب الجاهل.
عادت طروحات أحمد رشيد إلى ذاكرتي، وأنا أتابع القرار الذي اتخذته سلطات الأمر الواقع لطالبان يوم الثلاثاء الماضي، الذي يستهدف آلاف الطالبات الأفغانيات، بفرض حظر تعليم المرأة في كل الجامعات الحكومية والخاصة، وجاء القرار استكمالاً لقرار سابق اتخذته الحركة فور دخولها إلى كابول بتحريم تدريس البنات في المدارس المتوسطة والثانوية، وما تلاه من طرد للأفغانيات العاملات في الوظيفة العامة، وإلغاء وزارة شؤون المرأة واستبدالها بشرطة الأخلاق، ومنع المرأة من الخروج من بيتها من دون محرم، وفرض الشادور التقليدي على كل النساء في الشارع، ومنع ارتيادها للمتنزهات العامة، ومنعها من ممارسة الرياضة.
لماذا النساء؟
لقد شكل طرد النساء من الوظيفة العامة خفضاً بنسبة 21 في المئة من قوة العمل الوظيفية في الدولة، بحسب منظمة العمل الدولية، وحرمان أفغانستان الفقيرة من خمسة في المئة من ناتجها القومي الإجمالي، أو ما يزيد على مليار دولار سنوياً.
وأدى النزاع الطويل إلى تحول أفغانستان إلى وضع كارثي، فـ 97 في المئة من الأسر لا تستطيع توفير احتياجاتها الأساسية، فيما يعاني عشرات الآلاف من الأطفال سوء التغذية. وتجد المرأة الأفغانية نفسها في مركز هذا الوضع الإنساني المزري، من حيث عدم قدرتها على الحصول على مصدر رزق، وعدم القدرة على شراء الغذاء، أو الحصول على الرعاية الصحية.
خلال السنوات الـ20 التي سبقت عودة الكابوس الطالباني إلى أفغانستان، لم تحصل المرأة الأفغانية إلا على قليل من حقوقها، التي منحها إياها الدين الإسلامي بقراءته الحداثية، من منظور الحديث النبوي “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فثورة الإصلاح الديني التي نعيشها هذه الأيام أحدثت ثورة تطوير شاملة، وتغييراً عميقاً في منطقتنا، وتقف على قاعدة الرفض لأفكار “طالبان” وقراءتها القروسطية للدين الإسلامي، ولا توجد اليوم دولة في العالم تقطنها غالبية مسلمة تحرم تعليم الفتيات.
وصل الحال بنائب رئيس الوزراء الطالباني عبدالسلام حنفي، في تعليقه على سؤال حول مشاركة النساء، بأنهن حاضرات، ويشاركن بطريقة أو بأخرى، لكن عبر أبنائهن الذكور. هكذا شطبت حركة طالبان بجرة قلم وجود المرأة الأفغانية، وأعادتها مكرهة إلى كهف بيت الطاعة القروسطية. وكان ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرسمي لطالبان، قد قال في مؤتمره الصحافي الأول بعد دخول كابول، بأن حكومته ستمنح المرأة حقها في العمل والتعليم والمشاركة المجتمعية وفق الشريعة الإسلامية.
وكذلك استمع المفاوض الأميركي زلماي خليلزاد، لمثل هذه التأكيدات المطاطية التي كان يطلقها المفاوض الطالباني في مباحثات الدوحة من أنهم سيمنحون المرأة الأفغانية حقوقها المنصوص عليها في الشرع. وفي الواقع لم يعر خليلزاد آذاناً مصغية لمخاطر عودة طالبان على الحياة المدنية في أفغانستان، تحديداً رؤية طالبان غير الإسلامية لحقوق المرأة. وها هي طالبان اليوم تطبق ما تقول بأنه شرع، وأي شرع هذا الذي يلغي نصف المجتمع، فشرع طالبان ليس بشرع الله والإسلام منه براء.
وفي الواقع لم يكن المفاوض الأميركي يعنيه ما ستؤول إليه الأمور، فكان كل همه يتركز على حماية جنوده الباقين في أفغانستان وتأمين انسحابهم، ولهذا خرجت الوثيقة التي فاوض عليها خليلزاد حبراً على ورق، سرعان ما تبين أن طالبان الأولى هي طالبان الثانية ولم تتغير قيد أنملة، وأن “القاعدة” عادت إلى أفغانستان، وهي تبني شبكاتها مجدداً، وما وجود أيمن الظواهري زعيم التنظيم في قلب الحي الدبلوماسي في كابول وبضيافة وزير الداخلية حقاني، حينما استهدفته المسيرة الأميركية، إلا مؤشر خطر على عودة الإرهاب الدولي بأشكال جديدة خلال السنوات المقبلة بفعل وجود الحاضنة الأصولية المتطرفة.
المقرر الخاص للأمم المتحدة لأفغانستان، أكد أن طالبان تبني دولة الترهيب، فمنذ أغسطس (آب) من العام الماضي وثقت بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان 237 حالة قتل خارج نطاق القضاء قام بها رجال طالبان، بمن فيهم 160 من أعضاء الحكومة الأفغانية السابقة وأجهزتها الأمنية، ويؤكد أن الأرقام أكبر بكثير من تلك التي تمكنت المنظمة من توثيقها، نظراً إلى فرض طالبان حظراً شاملاً على عمل المنظمات الحقوقية والأجهزة الإعلامية المستقلة.
أين يقف العالم الإسلامي؟
وفيما تشكل إسهامات المرأة في عالمنا اليوم منطلقاً للإبداع الإنساني، في مجالات التفوق العلمي، والثورة الرقمية، والفنون والإبداع، تدوس طالبان على كرامة المرأة الأفغانية، وتؤكد للعالم بما لا يدع مجالاً للشك أن لا علاقة لهم بالإسلام، وأنهم حالة خاصة لتكريس الجهل، فهم آخر معاقل الخطاب الديني القروسطي الذي فشل العالم الإسلامي المتحضر في دفنه، وقلب صفحته إلى الأبد، فالسكوت عن هذا الخطاب سيجرنا إلى جولات جديدة من العنف والإرهاب.
وفيما فشلت الأمم المتحدة في فرض عقوبات على طالبان في جوانب عدة، مثل إعادة العمل بحظر السفر وتجميد الأرصدة، نظراً إلى مواقف دول بعينها كانت وما زالت تعتبر أن ما جرى في أفغانستان هو هزيمة لأميركا والدول الغربية، وهذا ما تردده ميليشيات طالبان احتفاء بما تسميه “يوم الفخر الأفغاني” وهزيمة أميركا وحلفائها المحتلين لأفغانستان. يبقى السؤال هل يقبل العالم الإسلامي بهذه الجرائم التي يرتكبها طالبان باسم الدين الإسلامي ضد النساء؟ وهل يمكن لمنظمة التعاون الإسلامي أن تترك دورها التنويري في تبيان صحيح الإسلام؟ هذه بتقديري هي اللحظة المناسبة لممارسة الضغط على نظام يدعي أنه إسلامي في الوقت الذي ينتهك كرامة المرأة.
منظمة التعاون الإسلامي أمام تحد رئيس لصياغة موقف الحد الأدنى، أن تعد مصفوفة للحد الأدنى لحفظ حقوق المرأة الأفغانية، وتمارس الضغط على حكومة طالبان لتنفيذها، فهذه المجموعة التي تسيطر على أفغانستان لا تعرف الشرع ولا تفقه في الدين. وبإمكان المنظمة الانطلاق من البيانات التي صدرت عن عديد من الدول العربية والإسلامية والخليجية على وجه التحديد التي أبدت استغرابنا جميعاً في العالم الإسلامي من الخطوة التي أقدم عليها نظام طالبان، ودعته إلى العودة الفورية عن تلك الإجراءات. كما أن البيان الذي صدر عن الخارجية السعودية أكد أن القرار يتنافى مع إعطاء المرأة حقوقها الشرعية الكاملة، وعلى رأسها حق التعليم.
يجب أن يتوقف العالم، بخاصة الدول الإسلامية، عن الإعراب عن خيبات الأمل، وأن نترجم معتقداتنا القوية بمزيد من التحرك لشرح صحيح الإسلام تجاه هذا الانتهاك الصارخ لحقوق وكرامة الإنسان، فالمرأة الأفغانية ليست جريمة، بل إن الجرم كل الجرم أن تترك أفغانستان لتنهش فيها ضباع الطالبان.