عام على الحرب
لا تعتبر حرب روسيا-أوكرانيا مجرد خصومة عسكرية بين دولتين متجاورتين.. وإنما مواجهة متجددة بين روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة، زعيمة الغرب وصاحبة الكلمة العليا في سياسة العالم منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.
صحيح أن ميدان المعارك بين موسكو وكييف محصور جغرافيا حتى الآن، ولكن فضاءها يمتد على كامل الكوكب، ويطال جميع الدول القريبة والبعيدة.
قبل أيام فقط من إسدال الستار على العام الأول للحرب، زار الرئيس الأمريكي جو بايدن كييف وأطلق شارة البداية للعام الثاني على التوالي.
عنوان العام الجديد وفق بايدن “تسليح أكبر وأكثر فعالية للأوكرانيين، وعقوبات أصعب وأشد على الروس”.. أما نتيجة الصراع فستبقى ملغزة ومبهمة.. فيما ستواصل دول العالم شرقا وغربا، تحمُّل تداعيات الأزمة أيا كانت، ومهما عظم ضررها على اقتصادها وشعبها.
وسائل الإعلام الغربية تنقسم اليوم بين مبشر بهزيمة فلاديمير بوتين قبل فبراير/شباط 2024، وبين محذر من أن الرئيس الروسي قد أعد العُدة لحرب طويلة الأجل ربما تمتد لسنوات طويلة.
ولكن أحدا لم يُشِر إلى ثقل الأزمة على العالم.. وكيف يجب على الدول التي “لا ناقة لها ولا جمل” في هذه الحرب، أن تحتوي مزيدا من هزّاتها الارتدادية، وأن تعتاد استمرارها لسنوات دون أن “تنبس ببنت شفة”.
لم تكن حسابات العملية العسكرية الخاصة دقيقة تماما.. يعرف بوتين هذه الحقيقة اليوم أكثر من غيره.. ولكن هل كان يملك بديلا عن خوض الحرب؟
هل كان يتوقع كل هذا التضافر والتحالف من دول الغرب ضده فوق أرض أوكرانيا؟ وقبل هذا وذاك، هل استعد الرئيس الروسي لجبهة طويلة الأجل على حدود بلاده الغربية قبل إطلاق الرصاصة الأولى، أم أنه بدأ استعداداته منذ أشهر فقط؟
تجارب التاريخ الكثيرة لا تتحدث بإسهاب عن نجاحات وانتصارات دائمة في الحروب إلا لهؤلاء الذين خاضوها دفاعا عن النفس والبلاد.. ولكن سجل البشرية الطويل حافل بتغييرات جغرافية وسياسية واقتصادية صنعتها الحروب، وخاصة تلك التي دارت رحاها بين القوى الكبرى.. فلطالما أعيد رسم خرائط العالم مرارا وتكرارا بعد كل صدام بين الدول والممالك والإمبراطوريات العظمى خلال كل حقبة زمنية.
بعد عام كامل، يمكن القول إن الحدود الجغرافية للحرب بين موسكو وكييف باتت تقتصر على مناطق شرق أوكرانيا، أي تلك الأقاليم الأربعة التي أعلن الكرملين ضمها في 2022.
لن يكون بإمكان بوتين الزحف أكثر داخل عمق الدولة الجارة أو أي دولة أوروبية أخرى، هذه السنة أو حتى بعد عقد من الزمن.. فالغرب بقيادة الولايات المتحدة، أعلن الدب الروسي “عدوا” لا مكان للمصالحة معه على المدى المنظور.
قد تهدأ الحرب في عامها الثاني إنْ حقق بوتين “نصره” وسيطر على دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابوريجيا، ولكن هل سيقبل الغرب بمعادلة “لا حرب ولا سلام” في أوكرانيا؟ هل يرضى الأمريكيون والأوروبيون بإعلان روسيا وقف الحرب من جانب واحد فقط؟ وهل يعني وقف القتال في أوكرانيا انتهاء الخصومة بين روسيا والغرب، أم أنه يكون بداية حرب باردة جديدة بين الطرفين لا أحد يعلم مداها؟
السياق التاريخي، يفترض أن موسكو اليوم تستعد للمرحلتين معا.. الجبهة الساخنة طويلة الأجل في أوكرانيا، والحرب الباردة التي سوف تليها مع الولايات المتحدة وكندا واستراليا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي.
تعزيز العلاقات مع الصين، “خصم” الولايات المتحدة القوي، هو أمر جيد بالنسبة للروس. ولكنه يحتاج إلى حنكة كبيرة، لأن بكين تعرف أن موسكو تتقرب منها من موقع ضعف وليس قوة.. كما أن التنين الآسيوي لن يتخلى عن مصالحه مع واشنطن من أجل عيون الروس.. ولن يتنازل عن ملياراته الكثيرة في الأسواق الأمريكية إلا في مواجهة مباشرة مع الغرب تدور رحاها فوق جزيرة تايوان، كما الحال في الحرب الأوكرانية.
مد جسور التواصل مع حلفاء أمريكا حول العالم، هو أيضا سياسة روسية ذكية للهروب من العزلة الدولية والتحايل على العقوبات الغربية.. ولكن موسكو تعرف جيدا أن عواصم العالم تضع علاقتها مع واشنطن محددا رئيسيا في سياستها الخارجية.. وبالتالي تحافظ على “شعرة معاوية” في التعاون مع الروس دون الإضرار بمصالحها مع الولايات المتحدة والأوروبيين.. وهذا منطقي لكل دولة ذات سيادة وتهتم بأمر شعبها.
على الضفة المقابلة، يعرف الغرب أن حدود الدعم العسكري لأوكرانيا لا يجب أن يخالف القاعدة الأساسية المتعلقة بتجنب المواجهة المباشرة بين روسيا وحلف الناتو.. ليس خشية الخسارة، ولكن خوفا من كارثة كونية قد يستدعيها فلاديمير بوتين عندما يجد نفسه في معركة مع ثلاثين دولة في آنٍ.. لن يسأل بوتين نفسه حينها مرتين قبل استخدام أي سلاح.. ولن يُجدي لومه وعتابه على ما فعل لاحقا.
في الإطار ذاته، يجب على دول الغرب أن تتنبه للضرر الذي تسببت وتتسبب فيه الحرب الأوكرانية.. سواء لهم أو لغيرهم من دول العالم.. وإن كان ثمة سبيل لإنهاء الأزمة بالصيغة التي يتحدث بها الرئيس الفرنسي، وملخصها “هزيمة روسيا دون سحقها”.. فيتوجب على الاتحاد الأوروبي قبل غيره المُضي فيه.. حتى ولو كان في ذلك يحتاج إلى التنازل قليلا أو الاحتكاك على المدى القصير مع الولايات المتحدة.
في واشنطن، قد لا يكون هناك ما يستدعي الحِلم والتعقل في إدارة الحرب الأوكرانية خلال عامها الثاني.. إلا إنْ جاء ما يخالف التوقعات في التقدم الروسي الميداني، أو اشتعلت أزمة في مكان ما من العالم تحتاج من الغرب اهتماما وجهدا ودعما لتدارك تداعياتها، واحتواء تأثيرها في السياسة الدولية.. أو لعل الجمهوريين يقررون إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ووقف الدعم العسكري عن كييف وأوروبا.
الرئيس الأربعون للولايات المتحدة رونالد ريغان، يقول “إن التاريخ يعلمنا أن الحروب تبدأ عندما تعتقد الحكومات أن ثمن العدوان رخيص”.. ومع نهاية العام الأول لأزمة أوكرانيا، لم يعد هناك من يعيش الوهم.. فكلفة الحرب بين موسكو وكييف باهظة جدا.. والعبرة بما نتكبده، وليس بما نحلم أن نحققه في الظروف المثالية التي لن تقارب الواقع.