عبدالفتاح البرهان يقفز بالسودان إلى الهاوية
علي الصراف
الانفصال عن الواقع مستويات. أسوأها عندما يعتقد العسكر أنهم قادرون على كل شيء.
ما هو الواقع في السودان؟
ـ الواقع، هو أن هناك ثورة أطاحت بنظام عسكري في أبريل 2019. هذه الثورة كانت ثاني أكبر انتفاضة شعبية للإطاحة بحكم عسكري قاده عمر حسن البشير، بعد الثورة التي أطاحت بنظام جعفر نميري عام 1985.
ولقد كانت هاتان الثورتان ثمرة ضيق شديد من حكم العسكر. كل العسكر.
ما شفع للعسكر أن يلعبوا دورا جديدا، هو انحيازهم في الربع ساعة الأخير، إلى المتظاهرين. وهو شيء ليس بجديد. الفريق عبدالرحمن سوار الذهب، ساهم في الإطاحة بنظام نميري، ولعب دورا مماثلا بانحيازه إلى ثورة الشعب. إلا أنه تخلى عن السلطة طوعا، ومن دون أي ضغوط، بعد عام من قيادة البلاد.
البرهان، وحفنة من العساكر الذين يحيطون به، يحكمون منذ سنتين ونصف ولا يريدون أن ينزلوا من بغلة السلطة.
ـ والواقع، هو أن هناك مجتمعا دوليا يراهن على الانتقال السلمي للسلطة إلى المدنيين. وهذا المجتمع الدولي لا يريد أن يرى عسكرا يحكمون رغما عن أنف شعب السودان. ومن دون اعتراف المجتمع الدولي، فإنه ما من حكومة عسكرية، أو حكومة تابعة للعسكر، يمكنها أن تحظى بالاعتراف.
ـ والواقع، هو أن عدم الاعتراف بسلطة العسكر يعني سحب كل أسباب الدعم الاقتصادي والتسهيلات، التي لا يستطيع السودان أن يتدبر معالجة أزماته الاقتصادية من دونها.
ـ والواقع، هو أن السودان ما يزال مدينا بنحو 60 مليار دولار للخارج. وكان ينتظر أن يتم إعفاؤه منها، لكي يتمكن من الحصول على قروض جديدة توفر له الجسر لتجاوز الاختناقات الحالية. ويكاد من المستحيل أن تحصل سلطة غير معترف بها، على قرش واحد. حتى أن الجيش نفسه لن يجد ما يدفع به رواتب ضباطه ومجنديه، خارج عمليات النهب المعروفة للذهب وباقي الثروات.
ـ والواقع، هو أن التيارات السياسية التي تطالب بتسليم قيادة مجلس السيادة إلى المدنيين، ليست تيارات يمكن القفز من فوقها. المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير يمثل أكثر من ثلثي الإرادة الشعبية في السودان. هناك أطراف أخرى، من دون أدنى شك، إلا أنها لا تمتلك الثقل الذي تمتلكه قوى المجلس المركزي. فإذا أضفت إليها الأطراف المدنية التي تعترض على بقاء العسكر في السلطة، وتتهم قوى المجلس المركزي بالتراخي، فإن الغالبية العظمى سوف تقف ضد أي انقلاب، يقوم به عساكر يجوز الشك بنوازعهم حتى ولو كانوا قديسين.
ـ والواقع، هو أن الشعب السوداني كسر حاجز الخوف من سلطة القمع ومن سلاح الانكشارية.
ـ والواقع، هو أن مصير الذين يطلقون النار على صدور المتظاهرين، بات معروفا. وثمن تذاكر الرحلة إلى لاهاي ليس باهظا. المحكمة الجنائية الدولية هي التي تدفع الثمن.
ـ والواقع، هو أن البلاد ما تزال في منعطف اقتصادي حرج حتى بوجود حكومة تستطيع التخاطب مع دول العالم، وتحاول أن تتدبر الإمكانيات الشحيحة المتاحة، ريثما يمكن العبور إلى مرحلة الاستقرار. وأي محاولة انقلابية سوف تجعل العبور أبعد بكثير، وتزيد البلاد بؤسا على بؤس.
ـ والواقع، هو أن مدة صلاحية القيادة العسكرية لمجلس السيادة الانتقالي انتهت، وكان من مقتضيات الشرف وحده، أن يتم تسليمها إلى المدنيين، وليس التلكؤ أو تدبير انقلاب ضد هذا الواجب.
ولقد تم تدبير شؤون انقلاب عبدالفتاح البرهان، بطريقة مسرحية تماما:
1ـ بالإعلان عن إحباط محاولة انقلابية في سبتمبر الماضي، ولم تجر محاكمة المتورطين بها، وسط شكوك تقول بأنهم ربما قاموا بها بالتنسيق مع البرهان نفسه، لغايتين هما: اختبار رد الفعل على الانقلاب الحقيقي اللاحق، ولكي تكون المحاولة بمثابة تهديد لأطراف الحرية والتغيير، من أجل القبول باستمرار سلطة العسكر على مجلس السيادة.
2ـ بتحريك احتجاجات في شرق الخرطوم. فلم تكد تمر دقائق على إعلان الانقلاب حتى أعلنت جماعة “نظارات البجة” عن تأييدها للانقلاب، وكأن “الجماعة” كانت تنتظر “ساعة الصفر”.
3ـ بشق قوى الحرية والتغيير، وتشكيل مجموعة “الميثاق الوطني” التي تظاهرت من أجل (احزر ماذا؟) حل الحكومة وإلغاء لجنة مكافحة التمكين التي تلاحق مراكز نفوذ رجال النظام السابق.
4ـ دفع بضع مئات من المتظاهرين لتطويق القصر الرئاسي للمطالبة بإقامة حكومة عسكرية.
غاب عن مدبري الانقلاب أن هناك شعبا يستحق النظر إليه كقوة يمكنها أن تسقط الانقلاب بالاحتجاجات. غاب عنهم أن أوضاع البلاد الاقتصادية لا تتحمل عصيانا مدنيا. غاب عنهم أن قوى الحرية والتغيير، داخل الحكومة وخارجها ليست لقمة سائغة. كما غاب عنهم أن “التمسك بالوثيقة الدستورية” وإلغاء بعض بنودها حيلة لا تنطلي على أحد. وذلك مثلها مثل حيلة استخدام كلمات “ثورة” و”استكمال مهمات المرحلة الانتقالية”،.. إنما بعد سنتين من الآن!
اعتقالات الوزراء واحتجاز عبدالله حمدوك، عمل لن تكون عواقبه محمودة على الإطلاق. حمدوك رجل ذو مقام. وهو موضع احترام إقليمي ودولي، ولعب دورا بارزا في إقناع المؤسسات الدولية لمد يد العون للسودان، وهو شخصية وطنية يُعتد بها على المستوى المحلي. ولعب دورا مشهودا في إعداد اتفاقات السلام مع الحركات المسلحة، وبناء أجواء المصالحات الوطنية، والتقريب بين الكتل والتيارات السياسية المختلفة، وترفّع عن اتخاذ طرف في كل نزاع، وأعد من الأوراق والمقترحات لمعالجات الأزمات ما كان موضع إجماع أحيانا أو تأييد واسع أحيانا أخرى. وهو، بكل تأكيد، ليس رجل مؤامرات، ولا يمكنه بسبب مكانته كخبير دولي، أن يكون ألعوبة بأيدي خفافيش الظلام.
أفهل اعتقد عبدالفتاح البرهان أنه عبدالفتاح السيسي، لمجرد تشابه الأسماء؟ لعله هنا أيضا لم يلاحظ فارق الواقع بين انقلابه وثورة المصريين ضد سلطة الإخوان.
الرئيس السيسي لم يقد انقلابا. ولا كان شريكا في السلطة مع أحد. ولا خاض في حوارات مسبقة مع تيارات سياسية. ولا وقّع اتفاقات سلام مع قوى مسلحة. ولكنه استجاب فقط لثورة شعب انتفض ضد سلطة فشل كادت أن تدفع البلاد إلى هاوية بلا قرار.
كل ما فعله البرهان، هو أنه قفز بالسودان إلى الهاوية، بعد عامين ونصف من محاولة النجاة منها.
إنها قفزة عن رؤية الواقع.
السودان سوف ينجو بثورته، ويبقى هو في الهاوية. هو وحفنة الذين من حوله.