على هامش رواية ياسر عبد ربّه…
في المقابلة المطوّلة التي أجراها الزميل غسّان شربل مع ياسر عبد ربّه، أمين السرّ السابق للّجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، والتي نُشرت على ثلاث حلقات في هذه الجريدة، ثمّة مادّة يشيب لها الولدان. فبالكذب والاحتيال وعُظام القادة المَرضيّ وعيشهم في واقع موازٍ للواقع، وكذلك بالخفّة والجهل بالعالم وانعدام المسؤوليّة وخوف المرؤوس من مصارحة رئيسه وعدم الاكتراث بأيّ رأي عامّ وأيّ منطق مهما كان شكليّاً…، بهذه المواصفات، وبما هو أسوأ، صُنع القرار السياسيّ وحُكم ملايين البشر. هكذا تُوّجت سِيَر الأنظمة والتنظيمات المعنيّة بحروبٍ مدمّرة أضيفت أكلافها الإنسانيّة والاقتصاديّة الباهظة إلى الأكلاف التي رتّبها الظلم والاحتقار المديدان لشعوب المنطقة في أجساد أبنائها وفي عقولهم وحقوقهم. وبالطبع، كانت فلسطين المستباحة، ولا تزال، أكثر الموادّ ترويجاً وتوظيفاً في هذه الكوميديا بالغة السواد والجُرميّة.
نترك الكلام لعبد ربّه وبعض ما رواه ممّا هو أبلغ من أيّ كلام قد يقال:
فبعد غزو صدّام حسين الكويت، حاول عرفات، بحسب الراوي، حمله على شيء من التروّي. هكذا حذّره من «نكبة» تنزل بالعراق، بعد عقود على نكبة فلسطين. لكنّ الوزير طارق عزيز كان من ردّ على عرفات: «يا أبو عمّار، نحن نريد أن نحرّر لك فلسطين ونستعيد لك القدس وأنت ترفض؟ هل هذا الكلام معقول؟». أمّا صدّام فبدوره طمأن عرفات إلى أنّه حسبَ «حساباً لكلّ شيء»، ثمّ أمسكه بيده ووقف الاثنان ينظران إلى بغداد في الليل. وأمام لحظة تصفو فيها الطبيعة وتشفّ النفوس، أضاف حاكم العراق: «إنّي ارى أضواء القدس كما أرى أضواء بغداد أمامي الآن»، قاصداً أنّه سوف يستعيد القدس. وكان ممّا أدهش عبد ربّه أنّ طارق عزيز إيّاه، وقد انتهى اللقاء بصدّام، هو مَن سأله أن يُلحّ على عرفات كي يكرّر تنبيه صدّام من نكبة تنزل بالعراق.
قبلذاك، وفي زيارة إلى دمشق، بُعيد مقتل الزعيم اللبنانيّ كمال جنبلاط على مقربة من حاجز لقوّات الردع السوريّة، سارع حافظ الأسد إلى سؤال عرفات عمّن يظنّه وراء اغتيال جنبلاط، فأجاب بعد لحظة حيرة وتوتّر: «مَن غيرهم؟ مَن غيرهم؟»، وإذ سأله الأسد (الجاهل طبعاً بهويّة القاتل!) عمّا يقصده، أضاف عرفات: «طبعاً إسرائيل». وإذ استبدّت البراءة بالرئيس السوريّ فطلب من الزعيم الفلسطينيّ أن يشرح له السبب الذي حمله على هذا الاعتقاد، ردّ عرفات بالحجّة المُفحمة التالية: «أنا أعرف المنطقة التي كان فيها كمال جنبلاط. تنزل نزولاً وفي آخر النزول توجد تحويلة تبدأ بالصعود. هم كمنوا له عند التحويلة، مَن يقدر أن يفعل ذلك غير إسرائيل؟».
والحال أنّ العجالة هذه لا تتّسع لاسترجاع كلّ ما رواه عبد ربّه، فضلاً عن القصص المشابهة الكثيرة التي لم يروِها، أو التي لم يكن شاهداً عليها. لكنْ لا بأس بالتذكير بأنّ الفرسان الثلاثة المذكورين، أي صدّام والأسد وعرفات، شكّلوا في تاريخ المشرق العربيّ و»النضال ضدّ الاستعمار» أهمّ رموز المرحلة الوسيطة بين مرحلتين: من جهة، الحقبة الناصريّة التي انهارت في حرب 1967، ومن جهة أخرى، الحقبة البنلادنيّة ومتفرّعاتها التي انطلقت مع عمليّة نيويورك في 2001. وفي تلك المرحلة الوسيطة أُوقظت الآمال التي أحبطتها المرحلة السابقة عليها، كما أُحبطت هي نفسها، ما مهّد للمرحلة التالية التي لم نخرج منها بعد.
وفي هذا المسار، وبسببه، صار جائزاً الشكّ بكلّ المعاني التي استنبطتها حركات «مناهضة الاستعمار» على اختلافها، وبكلّ تأويل للتاريخ بوصفه حركة صراعيّة وخطّاً صاعداً تفضي خواتيمه إلى أمل ورجاء. وبالتأكيد فإنّ المحاسبة الجذريّة للمسار هذا، بحقبها الزمنيّة – السياسيّة الثلاث، تبقى شرطاً شارطاً لصحّة المشرق العربيّ ورجاحة العقل فيه.
فالثلاثة المذكورون أرادوا «تحريرنا» على نحو أو آخر، وهو أيضاً ما أرادته الحقبة الناصريّة قبلذاك، والحقبة البنلادنيّة فالإسلامويّة على أنواعها بعد ذاك. ونحن بتنا، في هذه الغضون، نسعى إلى ما هو أقلّ كثيراً من «تحريرنا» الموعود، فصارت المكاسب من نوع توفير الطعام لمصابين بالمجاعة، أو الحدّ من نزوح النازحين ولجوء اللاجئين ممّن دُمّرت أوطانهم. وإذ لم تخضع وعود «التحرير» الكثيرة والمتلاحقة لأيّة محاسبة جدّيّة، انتهى بنا المطاف إلى افتراضٍ يقوم على استبدال تلك المحاسبة برشقة صواريخ من هنا وببناء نفق من هناك. وهذا في انتظار أن يحدّثنا ياسر عبد ربّه آخر، يعيش قريباً من يحيى السنوار أو من حسن نصر الله، عن كيفيّة صنع القرار السياسيّ الراهن، الذي نرزح تحت وطأته اليوم، والذي هو بالتأكيد قرار نضاليّ لا يُشكّ بإيغاله في «تحريرنا»، كما لا يُشكّ بتاتاً في اتّجاهه إلى معانقة الكارثة مجدّداً، وعلى نطاق أكبر من ذي قبل، على أن يتّجه إلى معانقتها مثلما يتّجه السهم إلى معانقة هدفه.