عن إدارة “بايدن” والمأزق الأمريكي
إميل أمين
هل تعاني إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن من مأزق معاصر؟
مؤكد أنها ورثت تركة ثقيلة من الشقاقات الاجتماعية، وذلك منذ اليوم الأول لها، غير أن عاما ونيف في “البيت الأبيض” أظهر أن سياساتها قلقة وحائرة مما ارتد وسيرتد على الداخل الأمريكي بمزيد من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية.
ولأن ما يهم المواطن الأمريكي على نحو خاص هو أوضاعه الاقتصادية الداخلية، والتي تنعكس على مناحي حياته اليومية كافة، فإن التركيز بداية في تحليل المشهد الأمريكي ينصب على هذا الإطار.
من سوء طالع إدارة “بايدن” أنها وصلت إلى الحكم والبلاد في أوج معركة مع فيروس شائه، كلف الاقتصاد الأمريكي الرجوع عقود عدة للوراء، كما ضاعف من سيادة الكساد، وزيادة نسب التضخم بشكل مخيف، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة.
على أن سلسلة العقوبات الاقتصادية، التي أوقعتها واشنطن على موسكو، بعد أزمتها مع أوكرانيا، ارتدت إلى الداخل الأمريكي بشكل سريع، ومرشح أن تزداد تبعاتها السلبية إذا استمرت الأزمة لما هو أبعد زمنيا.
جاء القرار الأمريكي الخاص بوقف استيراد النفط الروسي، ليؤثر بلا شك على أسعار الطاقة في الداخل الأمريكي، بارتفاع غير مسبوق، الأمر الذي شكل ضغطا على جيوب الأمريكيين، ناهيك بحالتهم المزاجية.
بعد عام وبضعة أشهر من دخول “بايدن” المكتب البيضاوي، بدا واضحا أن الرجل أخفق في الإيفاء بوعوده الانتخابية، لا سيما ما يتصل منها بإيجاد مصادر للطاقة البديلة والمتجددة، الأمر الذي يجعل مصداقية تلك الإدارة في مهب الريح، ويحرمها من أي موثوقية مستقبلية عند الجماهير الأمريكية، سيما وأنها منشغلة حتى أذنيها في الصراعات القطبية من موسكو إلى بكين، وها هي تكاد تضيف نيودلهي إليهما، عطفا على خذلانها لحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي لم يعد يُوارَى أو يُدارى.
يعنُّ للمرء التساؤل: هل أدركت حكومة الرئيس “بايدن” المخاطر المحدقة بالداخل الأمريكي حين عمدت إلى منظومة العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا؟
بحسب إميلي بيك، مراسلة الأسواق في موقع “إكسيوس”، فإنه لم يسبق أن قامت واشنطن بنزع اقتصاد كبير ومترابط، كالاقتصاد الروسي، من النسيج الاقتصادي العالمي.
“بيك” ترى أن الإضرار بالاقتصاد الروسي إلى هذا الحد شأن لا يمكن أن يمضي هكذا من غير إلحاق الضرر بالداخل الأمريكي اقتصاديا، الأمر الذي بات يتمثل في عدم استقرار في تدفق السلع، وارتفاع أسعارها، وتهديدات توقف سلاسل الإمداد والتوريد العالمية.
سوف تتأثر بلا شك قيمة حسابات التقاعد، وصناديق الرسوم الجامعية للأبناء، ومدخرات شراء المنازل، ما يعني أن شن حرب على روسيا، حتى ولو كانت اقتصادية، أمر له ثمن بالغ سيُخصم حكما من رصيد إدارة “بايدن” في الشارع الأمريكي.
يبدو المأزق الأمريكي في حقيقة الأمر أخلاقيا ومتجاوزا لإدارة “بايدن”، وإنْ تماس معها، فعلى سبيل المثال جاءت دعوة السيناتور الجمهوري البارز، ليندسي غراهام، لـ”اغتيال” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتخصم كثيرا جدا من “مثالية أمريكا ودعواتها العالمية لسيادة روح القوانين وتجنب عالم الديكتاتوريات والشموليات”.
لكن “غراهام” ربما يجد عذرا في دعوته تلك حين يرى “بايدن” نفسه يصف “بوتين” بأنه “مجرم حرب”، ما يحطم جسور التواصل الممكنة والمحتملة مع الروس، الأمر الذي يتجاوز حالة العداء بين البلدين في زمن الحرب الباردة.
يستلزم صبغ “بوتين” بهذه الصفة عملية قانونية منفصلة لتحديد ما إذا كان قد انتهك القانون الدولي وارتكب جرائم حرب أم لا، مع أن الثابت حتى الساعة هو أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من قتلت 200 ألف نسمة في ضربة واحدة في هيروشيما وناجازاكي مثلا.
تقر صحيفة “يو.إس.إيه. توداي” الأمريكية الشهيرة بأن دعوة “غراهام” أمر يرقى إلى درجة “التحريض على ارتكاب أعمال إرهابية”.
أما أنتوني أرنيد، أحد مؤسسي معهد القانون الدولي والسياسة في جامعة جورج تاون، فيرى أن مثل تلك الدعوات “تمثل سابقة للآخرين تمكنهم من اتخاذ أمريكا كنموذج، وستكون حجتهم أن واشنطن ذاتها تدعو لفتح الباب واسعا أمام سياسة الاغتيالات، وعليه سيقول لسان حالهم: لماذا لا نتبعها نحن أيضا ونتوسع فيها لخدمة سياساتنا الخارجية”؟.
الأزمة الداخلية الأمريكية تتجلى في التنكُّر التام لفكرة حرية الرأي والتعبير، والمقدرة على ملاقاة الرأي بالرأي، ومواجهة الحجة بالحجة.
أمريكا اليوم تمضي في الداخل إعلاميا، كما الدولة التوتاليتارية/الشمولية، ومن غير المصدق أن يراجع ما أعلنته هيئة الاتصالات الفيدرالية عن بدء تنفيذ قواعد جديدة تتعلق ببث أي مواد يتم دفع مقابل إذاعتها من قبل أي حكومة أجنبية، ما يعني “التضييق على المحطات التلفزيونية والإذاعية، وبخاصة الروسية والصينية”، الأمر الذي دفع وسيلة الإعلام الروسية “آر. تي” إلى إبلاغ موظفيها الشهر الجاري بأنها ستوقف الإنتاج وتسرّح معظم الموظفين.
وسط الضجيج الخارجي، والانخراط في الحرب الروسية الأوكرانية، يفوت إدارة “بايدن” الهول الأكبر، الذي ينتظر الولايات المتحدة جراء التحولات الديموغرافية في الداخل، والتي ستؤثر حتما على درجة الاستقرار المجتمعي، من جهة، والرفض الأممي لها من جانب تكتلات أممية تسعى للتخلص من هيمنة الدولار في الخارج، والبحث جارٍ عن بديل، قد يكون اليوان الصيني أو اليورو الأوربي.
الخسارة القريبة حكما ستكون من نصيب الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وتمتد إلى انتخابات الرئاسة 2024.
فهل تعي إدارة “بايدن” أبعاد المأزق الذي تعانيه، أم أنها تهرب إلى الخارج من أزمات الداخل متنكرة لحلفائها وأصدقائها، وبحثا عن انتصارات وهمية في المدى المنظور؟