عن بايدن والشرق الاوسط
إميل أمين
أحد الأسئلة التي راجت بشكل واسع الأيام القليلة الماضية، وبخاصة بعد أن ارتفعت حظوظ المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية، جوزيف بايدن في الفوز، كان ذاك الموصول بعلاقة الرجل بالشرق الأوسط، وهل هو نقمة على المنطقة، تعيد التذكير بما جرى هنا قبل نحو عقد من الزمان، أي زمن ما أطلق عليه “الربيع العربي”، وإن كانت التجربة قد أثبتت أنه لم يكن سوى شتاء أصوليا قارسا، حمل الإرهاب والدماء إلى ربوع المنطقة؟
الشاهد أن الذين يتساءلون، لديهم هواجس من أن يكون الغد شبيه بالأمس، بل ربما مطابق له، كيف لا، وقد كان بايدن نائب باراك أوباما، الرجل الذي يسر صعود التيارات الإسلاموية إلى الحكم، وفتح لهم أبواب واشنطن واسعة.
تبدو فكر إعادة التاريخ أحداثه ساذجة إلى أبعد حد ومد، وتكرارها كنمط وجوبي أمر مستبعد تماما، حتى وأن كانت الأحداث في بعض الأحيان تتشابه، إلا أن مقدرات البشر تختلف من جيل إلى جيل، ومن موقع إلى موضع، وهذا ما يمكن أن يشمل إدارة بايدن حال النتيجة النهائية وفوزه برئاسة البلاد.
بداية ربما يتوجب الإشارة إلى أمر هام، وهو أن بايدن لمن لا يعرف كان غير موافق على رؤية أوباما بإزاحة حلفاء أميركا من المنطقة، وموقفه من الرئيس المصري الراحل حسني مبارك معروف للقاصي والداني، فقد رفض فكرة إجباره على التنحي، غير أن شباب المستشارين من حول أوباما، هم من أقنعوه بهذا السبيل، الأمر الذي يعني أن الرجل له رؤيته وفكره، وموقعه في الرئاسة يجعل منه سيد التوجهات.
الأمر الأخر، الذي يتحتم الاشارة إليه هو أن أي رئيس أميركي لا يعمل في فراغ، وإنما تدور فترة حكمه في سياقات ومسارات بعضها مرتبط بالأحداث الزمانية، وأخرى بالقضايا المكانية، وبين هذه وتلك يتبدى للناظر أن معركة واشنطن، إن جاز أن نحدد أفق معارك الولايات المتحدة الأميركية القائمة والقادمة ، ليست في الشرق الأوسط، بل يراها المرء تطل من نافذة أحداث الشرق الاقصى، وهناك في شرق آسيا، حيث الصين، التنين القادم، وروسيا الدب الذي تحول إلى ثعلب رشيق سهل الحركة، نافذ الإرادة، وكلاهما أختصم طوال السنوات العشر المنصرمة الكثير من مربعات النفوذ الأميركي عربيا وشرق أوسطيا، كما أن حالة السكينة التي كانت أقرب إلى التخاذل من قبل بكين وموسكو وقت أوباما، قد ولت إلى غير رجعة، وهناك جيوبولتيك عالمي جديد يرسم خطوطه، وينسج خيوطه، وبما يجعل من المستحيل للماضي أن يعيد نفسه، وللأوهام أن تلقي شباكها من جديد.
ثم خذ إليك قبل التفكير في مسألة عودة الزمان إلى الوراء هذا التساؤل: “هل أميركا اليوم في ترف يسمح لها بتكرار مغامرات كارثية من جديدة كتلك التي تسبب فيها باراك أوباما وكلفت واشنطن الكثير من الأصدقاء والحلفاء، وجعلت الكل يراجع حساباته نحو واشنطن من جديد؟”
للذين يتوهمون أن واشنطن جاهزة لتحريك أساطيلها حول العالم مراعاة العديد من الأزمات الداخلية والخارجية، تلك التي تعيشها الإمبراطورية المنفلتة، وتحتاج إلى عقد كامل على الأقل حتى تتخلص من أدرانها.
يمكن للمرء أن يتساءل عن الجائحة الكورونية التي تضرب أميركا، وبشكل غير معقول، ووسط عشرات الالاف من الضحايا كل يوم، وفي ظل غياب رؤية طبية ناجعة، هذا بجانب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي خلفتها الجائحة وستخلفها من وراءها.
ومن أخطر الإشكاليات التي تعاني منها أميركا اليوم قضية النسيج المجتمعي الأميركي المتفسخ، بعد أن تبدي للأميركيين أن هناك أكثر من دولة أميركية، واحدة ظاهرة على السطح، والثانية خفية عميقة، لا تسمح للمتسللين الدخول إلى البيت الابيض.
تضحى الصورة قاصرة إذا نظرنا إلى المشهد الشرق أوسطي من المنظور الأميركي فقط، ومن غير تقييم موضوعي للذات العربية من غير تهوين أو تهويل.
كثيرا ما أشرنا إلى أنه ورغم الخسائر التي تسببت فيها تلك الفترة المزعجة بدءا من العام 2011 إلا أن دروسا مستفادة خلصت إليها الدول والشعوب الشرق أوسطية، وقد أدركت جميعها أن القضايا المصيرية هي طرح ذاتي الشأن وغير معقود بالأخرين، ولهذا فقد كان العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هو عقد إصلاحات جوهرية، ووضع خطط تنموية ورؤيوية، وفتح الأبواب أمام الشعوب للتنافح والتلاقح الخلاق مع الأخر.
خلال العقد الماضي جرى استعادة مشاهد من التنسيق العربي – العربي، وبصورة عقلانية وعملية تخدم جميع شعوب المنطقة، ووضعت الخطط الاستشرافية المستقبلية في غالبية دول المنطقة، بعضها يقصد 2030، والأخر يسعى إلى 2024، ما يعني أن القرار العربي لم يعد مرتهنا بأحد، بل إن افضل ما فعلته الدبلوماسيات العربية طوال العشر سنوات المنصرمة، هو ضبط المسافات مع كافة العواصم الشرقية والغربية، الأوربية والأميركية من جهة، والآسيوية الروسية والصينية من جهة ثانية، فقد علمتنا التجربة أن الرهان يجب أن يكون أولا على الحصان الوطني، وغير ذلك يضحى نوعا من ارتهان القرار للأخر .
الذين يعرفون عمق الفكر الأميركي الحاكم، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض الحزبية، يدركون أن البراجماتية هي السيد أمس واليوم وإلى الأبد، ومن هذا المنطلق تبقى فلسفة المصالح المتبادلة هي الاساس الذي يهم أي رئيس أميركي، فواشنطن لا تزال لم تحسم أمرها بين المثالية والواقعية، الجيفرسونية والويلسنية، والفاهمون يستطيعون أن يتعاطوا مع كل توجه أميركي في الحال والاستقبال.
والثابت أن البعض يتخوف من علاقة بايدن المحتملة مع إيران، غير أن فكرة التسليم الأميركي الجديد لإيران، هي فكرة ساذجة، فقد أخفقت طهران في تنفيذ متطلبات اتفاق 2015، ولا يمكن القبول ببرامجها الصاروخية، أو إرهابها المنتشر حول العالم، وقد علت الاصوات عربيا وخليجيا تنادي طهران بأن تكون دولة طبيعية في مجالها، تحترم المعاهدات والمقررات الدولية، ما يعني أن العداء لإيران ليس قدر منقوش على حجر، وما من أحد يعترض على أي اتفاقية تحترم مصالح بقية دول المنطقة وأمنها وسلامة مواطنيها.
وفي ملف بايدن أيضا أمران مهمان ينبغي التوقف أمامها، الأول هو أن الرجل لابد له وأن يكون داعم لمسيرة السلام الإسرائيلي العربي، لا سيما وأن اللوبي المناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة قد زخمه بأكثر من سبعين بالمائة من أصواته الفاعلة والمؤثرة.
والثاني وهو يصب بلا شك في صالح استقرار المنطقة، يتعلق برفض بايدن لما يقوم به الأغا العثمانلي من تهديدات لدول المنطقة، ومن إرهاب سافر، وتهديد للأمن وأمان البحر الابيض المتوسط.
تقتضي العقلانية المزيد من الهدوء حتى ينقشع الغبار عن المشهد الأميركي، وفي الوقت ذاته تستدعي الحكمة بلورة خطوات إيجابية تقلص من أي خلاف وتعمق من فرص الاتفاق، عطفا على الحاجة العاجلة إلى دبلوماسية استباقية في داخل واشنطن، وعدم الركون إلى فكرة البكائيات المرة والنوح على الأطلال.
الأوبزرفر العربي