عودة ترامب… مخاطر قفزة إسرائيلية

محمود الريماوي

وسط أجواء من القلق الشديد، ثمّة ميزة في عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أن الرجل معروف لدى صانعي القرارات العرب، وسبق لهم التعامل معه. ويعرفون مفاتيح شخصيّته التي تجمع بين احترام القوي وتجاهل الضعيف، وإيلاء أكبر اعتبار للمال، إلى تقلّبه وتفضيله الأسلوب المباشر (وغير التدريجي) في التعامل مع نظرائه كما مع سائر القادة، إلى تحرّره من العقائد السياسية وغير السياسية (الأيديولوجيا)، ونفوره من الحروب والصراعات المسلّحة، لأنها تهدر أموالاً كثيرة قبل أن تزهق الأرواح، وميله إلى الحدّ من عسكرة السياسة الخارجية، واعتماد الحلول “العملية” للنزاعات التي تتّخذ طابعَ صفقة. وبطبيعة الحال، يعرف ترامب غالبية زعماء المنطقة وقادتها كما يعرفونه هم، ما يجعل التعامل مع قيادته الدولة العظمى استئنافاً لعلاقات سابقة، مع أخذ مُستجدَّات الظروف والأحوال العامّة في الأعوام الأربعة الماضية في الاعتبار.

وليس سرّاً أن كثيرين قد شعروا بالصدمة لعودة ترامب، بيد أن كثيرين أيضاً في منطقتنا شعروا بالراحة لعودته، ولم يأسفوا لغروب شمس الديمقراطيين الأميركيين المرّة هذه، ويُظهرون استعدادهم للتعامل مع الرئيس العائد. ويشبه هذا الانقسام في المواقف الرسمية والشعبية العربية تجاه الرجل، ما ظهر من انقسام بين العرب والمسلمين الأميركيين، الذين توزّعت أصواتهم بين ترامب وكامالا هاريس، ومرشّحة “الخضر” جيل ستاين. ذلك أن مرشّحة الحزب الديمقراطي طمحت في نيل ثقة أغلبية العرب والمسلمين الأميركيين، من دون أن تبدي احتراماً فعلياً لهؤلاء، وإلى درجة منع ممثّليهم من مخاطبة مؤتمر كبير للحزب الديمقراطي، ما دلّ على أن الإسلاموفوبيا تعشّش في الحزب الديمقراطي ممثّلاً بهاريس، وأن هذا الرُّهاب لا يقتصر على الحزب الجمهوري وممثّله ترامب، وإن كانت درجة الرّهاب لديه أعلى.

وواقع الحال أن الحزبَين الكبيرَين في أميركا منقسمان حيال شؤون داخلية في بلدهم الكبير، غير أن محدّدات الفوارق بينهما في السياسة الخارجية ليست كبيرةً، وبالنسبة لمنطقتنا فإنهما لا يمنحان الحقوق والمصالح العربية كبير اعتبار، ويستغلّان الانقسامات العربية لمصلحتهما ومصلحة حلفائهما في تلّ أبيب، أيّا كان من يقود حكومات هذه الأخيرة، وكما تبدّى في سلوك الرئيس جو بايدن، الذي زعم مراراً وتكراراً أنه على خلاف مع بنيامين نتنياهو، وهو ما كان يدفعه إلى “معاقبة” الأخير بمنحه مزيداً من المساعدات السخية والأسلحة الفتّاكة، التي فتكت (وما زالت) بالمدنيين في غزّة ولبنان، في وقت ظلّ يتردّد إبرام اتفاقية أمنية مع السعودية، تزوّد معها المملكة بمُعدّات دفاعية متطوّرة.

والشواهد تدلّ الآن على أن أخطر ما في عودة ترامب إلى البيت الأبيض هو ما يُتوقّع من استغلال نتنياهو وشركائه من غلاة المتطرّفين لهذا التطوّر، من أجل ما يسمّيه نتنياهو شرق أوسط جديداً، وبعد أن جعل من نفسه (ومن حكومته) وصيّاً على مصير منطقتنا دولاً وشعوباً. ويقوم هذا الشرق المزعوم على مواصلة حرب الإبادة ضدّ الكتلة البشرية الفلسطينية، والانتقال من ذلك إلى مخطّط توسّعي، يشمل ضمّ شمال قطاع غزّة وإعادة الاستيطان فيه، ودوام السيطرة على حدود القطاع مع مصر، وفق مفهوم “اليوم التالي” إسرائيلياً. ويهيئ نتنياهو هديةً لترامب بإيقاف الحرب على أبناء غزّة مع استلام ترامب مقاليد الحكم في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، ونسبة هذا الإنجاز بوقف اطلاق النار إلى ترامب، في مقابل أن يغضّ هذا ناظريه عمّا يبيّت نتنياهو وعصابته من أطماعٍ في غزّة، التي تمثّل أصغر رقعة جغرافية وأعلاها كثافةً سكّانية، علماً أن قطاع غزّة مع الضفة الغربية المحتلة يمثّلان 22% فقط من أرض فسطين الانتدابية التاريخية.

وبما أنه يرى في نفسه رئيساً للحكومة حتى أكتوبر/ تشرين الأل من العام 2026، موعد الانتخابات الإسرائيلية، فإن نتنياهو يطمح إلى التمدّد خارج حدود الدولة العبرية، معتبراً أن تصريح ترامب في أثناء حملته الانتخابية أن رقعة الدولة الإسرائيلية صغيرة، بمنزلة رخصة كي يتمدّد خارج حدود دولته، وعلى حساب الآخرين وحقوقهم في أراضيهم. فقد شرعت قوات الاحتلال في قضم جزء من أرض القنيطرة السورية في الحدود، وتستعدّ لاهتبال الفرصة لمزيد من القضم. وفي جنوب لبنان يتسابق ممثّلو اليمين الإسرائيلي المتطرّف على الزعم إن لبنان ليس خارج حدود إسرائيل الكُبرى، بل داخلها، ويقترح بعضهم الشروع بإقامة بؤرٍ استيطانيةٍ في الجنوب اللبناني. وبالنسبة للأردن، تحشُد قواتٌ إسرائيليةٌ في حدوده مع الضفة الغربية المحتلّة، ويُقام جدار فاصل، تمهيداً للقفز داخل الأرض الأردنية، وقد سعى الإسرائيليون إلى ذلك، حين زحفوا عسكرياً نحو منطقة الأغوار في مارس/ آذار من العام 1968، حيث نشبت معركة الكرامة التي اندحر فيها الإسرائيليون.

لم يكن أحد يتخيّل في القرن الحادي والعشرين تنظيم حرب إبادة وتطهير عرقي على الهواء، ولا الفتك بعشرات آلاف من الأطفال والنساء من الاحتلال الإسرائيلي المتوحّش، وتدمير مصادر الحياة ومظاهر العمران كلّها، في أربع مدن يضمّها قطاع غزّة. وعليه، الاحتمال قائم بدرجة كبيرة أن يشهد العامان المقبلان حروباً توسّعيةً تستهدف الدول المجاورة، وسوف ينعت نتنياهو هذا التوسّع بأنه ميلاد شرق أوسط جديد يزدهر فيه التعاون الاقتصادي، ويراهن في ذلك على تفاهمات أوّلية (أو حتى ضمنية) قد يُسرع في انتزاعها من الإدارة الاميركية الجديدة ما إن تباشر عملها في غضون الشهور القليلة المقبلة، وتحت ادّعاء إن مقتضيات الأمن الإسرائيلي تملي هذه التحرّكات، التي سوف ترفع الحواجز، وتفتح الباب بعدئذ لكلّ أشكال التعاون والتنمية والازدهار في المنطقة، وبالطبع مع حذف شعب فلسطين من الخريطة وإحلال المستوطنين في محلّهم، وهو ما فعله نتنياهو لدى عرضه خريطته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام الماضي (2023).
تستحقّ مشاريع خطيرة كهذه التبصّر بها وتدارس الردود عليها والتصدّي لها، وليس بالضرورة ضمن قمّة عربية، بل بين الدول العربية التي تستشعر خطورتها، ثمّ بين هذه الدول وبين إدارة ترامب ما إن تُشكَّل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى